Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PL  - PT ]

كلمة قداسة

البابا فرنسيس

أثناء الجمعية العامة لكونغرس الولايات المتحدة

الزيارة الرسولية إلى الولايات المتحدة‏

كابيتول الولايات المتحدة، واشنطن

الخميس 24 سبتمبر/أيلول 2015

[Multimedia]


 

حضرة السيد نائب الرئيس المحترم،
حضرة السيد رئيس مجلس النواب المحترم،
حضرات السادة أعضاء الكونغرس المحترمين،
أيها الأصدقاء الأعزاء،

إنني في غاية الامتنان لدعوتكم لي لإلقاء كلمة في هذه الجمعية العامة للكونغرس في "أرض الأحرار ووطن الشجعان". أظن أن السبب في هذا إنما هو كوني أنا أيضًا ابن هذه القارة العظيمة، التي نلنا الكثيرَ منها جميعنا والتي نحمل تجاهها مسؤولية مشتركة.

إن لكلّ ابنِ، أو ابنةِ، بلدٍ معين مهمّةٌ بخاصة، ومسؤوليةٌ شخصيّة أو اجتماعية. ومسؤوليتكم أنتم كأعضاء في الكونغرس هي أن تسمحوا لهذا البلد، عبر عملكم التشريعي، بأن ينمو كدولة. أنتم وجه هذا الشعب، أنتم ممثّلوه. إنكم مدعوّون إلى الدفاع عن كرامة المواطنين وإلى الحفاظ عليها عبر سعيكم الدؤوب والمتطلّب وراء الخير العام، لأن هذا هو الهدف الرئيسي لأي سياسة.

إن المجتمع السياسي يستمر حين يجتهد في سدّ الحاجات العامة، كرسالةٍ له، محفّزًا نموّ جميع أعضائه، وبالأخص مَن يعانون مِن أوضاعٍ أكثر هشاشة أو خطورة. فالعمل التشريعي يقوم دومًا على رعاية الشعب. ولقد دُعِيتُم واستُدعيتُم إلى هذا من قِبَلِ الذينَ انتخبوكم.

إن عملكم يجعلني أتأمّل في جانبين من صورة موسى. من ناحية، إن أب شعب إسرائيل وواضع شرائعه يرمز إلى حاجة الشعوب إلى إبقاء حسّ الوحدة لديهم حيًّا بواسطة تشريعات عادلة. ومن الناحية الأخرى، تقودنا صورة موسى مباشرة إلى الله وبالتالي إلى كرامة الإنسان المتعالية. يقدم لنا موسى خلاصة جيّدة عن عملكم: لقد طُلِبَ منكم، بواسطة القانون، أن تُحافِظوا على الصورة والشبه المصنوعين من قِبَلِ الله في كلّ وجهٍ بشري.

أودّ اليوم، لا أن أتوجه إليكم وحسب، إنما أن أتوجّه من خلالكم إلى شعب الولايات المتّحدة بكامله. هنا، مع ممثليهم، أودّ أن أستغل هذه الفرصة للتحدث إلى آلاف الرجال والنساء الذين يسعون جاهدين كلّ يوم للقيام بعمل يوميّ شريف، ولشراء لقمة الخبز، ولتوفير المال، ولبناء – خطوة تلو الاخرى – حياة أفضل من أجل عائلاتهم. لا يهتم هؤلاء الرجال والنساء فقط بدفع الضرائب المستحقة عليهم، ولكنهم يساندون حياة المجتمع بطريقتهم البسيطة الخاصة. إنهم يوَلِّدون التضامن بعملهم، ويخلقون منظّمات تمدّ يدَ العونِ لِمَن هم أكثر حاجة.

أودّ أن أتحدّث أيضًا إلى العديد من المسنين الذين هم رصيد للحكمة المنحوتة بالخِبرة، والذين يحاولون المشاركة بخبراتهم وبمعرفتهم، عبر طرق مختلفة، وبالأخص عن طريق العمل التطوعي. أعلم أن الكثير منهم قد تقاعد ولكنهم ما زالوا ناشطين؛ ما زالوا يعملون على بناء هذه الأرض. أودّ التحدث أيضًا إلى هؤلاء الشباب الذين يعملون من أجل تحقيق طموحاتهم العظيمة والنبيلة، والذين لا يسمحون لمقترحات بسيطة بأن تضلّهم، والذين يواجهون أوضاع صعبة، غالبًا ما تكون نتيجةً لعدمِ النضج لدى الكثير من البالغين. أود التحدث معكم جميعًا، وأود القيام به عبر الذاكرة التاريخية لشعبكم.

تأتي زيارتي هذه في وقت يحتفل فيه الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة، بذكرى بعض العظماء الأميركيين. فعلى الرغم من تعقيدات التاريخ وواقع الضعف البشري، ومع كل اختلافاتهم ومحدوديتهم، استطاع هؤلاء الرجال والنساء، من خلال العمل الشاق والتضحية – وبعضهم دفع الثمن من حياته – أن يبنوا مستقبلًا أفضل. لقد رسموا القيم الأساسية التي سوف تدوم للأبد في ذهن الشعب الأميركي. فمع هذه الذكرى، يمكن للشعب أن يتخطى العديد من الأزمات، والضغوطات والصراعات، وأن يجد في الوقت عينه القوّة للمضيّ قدمًا، وبكرامة. يقدم لنا هؤلاء الرجال والنساء فرصةً لرؤيةِ الواقع وتفسيره. وإننا نشعر باندفاع كبير، بتكريمنا ذكراهم، حتى في خضم الصراعات وواقع الحياة اليومية، للاعتماد على تراثنا الثقافي العميق.

أود أن أذكر أربعة من هؤلاء الأميركيين: أبراهام لينكولن، ومارتين لوثر كينغ، ودوروثي داي وتوماس مرتون.

تحلّ في هذا العام الذكرى المائة والخمسون لاغتيال الرئيس أبراهام لينكولن، حارس الحرية، الذي عمل بدون كلل كي "تحظى هذه الدولة، في ظل الله، بولادة جديدة للحرية". فبناء مستقبل حرّ يتطلب حبّ الخير العام وتعاون يعتمد على مبدأ الاحتياط والتضامن.

إننا كلنا على يقين وقلقون للغاية بشأن الوضع الاجتماعي والسياسي العالمي غير المُطَمْئِن. فعالمنا اليوم هو ساحة لصراعٍ عنيف متزايدٍ وحقد وفظائع وحشية، تُرتَكَب حتى باسم الله والدين. نحن نعلم أنه ما من دين معصوم عن أشكال التضليل الفردي أو التطرف الإيديولوجي. وهذا يعني أنه ينبغي علينا أن نتنبّه لأي نوع من الأصولية، أكانت دينية أو من أي نوع آخر. يجب إيجاد توازن دقيق يسمح بمحاربة العنف الذي يُرتَكَب باسم الدين أو باسم إيديولوجية معينة أو نظام اقتصادي ما، والمحافظة في الوقت عينه على الحرّية الدينية، والحرية الفكرية والحريات الفردية. علينا السهر أيضًا على عدم السقوط في خطأ اخر: الاختزال والتبسيط الذي لا يَرى إلا الخير أو الشّر؛ أو بعبارة أخرى، إلّا الأبرار والخطأة. إن العالم المعاصر، في جراحه المفتوحة التي تصيب الكثير من إخوتنا وأخواتنا، يتطلب منا أن نواجه جميع أنواع الاستقطاب الذي قد يُجزّئُه إلى هاتين الفئتين. نحن نعلم أنه في محاولتنا التحرّر من العدو الخارجي، قد نقع في تجربة تغذية العدو الداخلي. فالتَمثّل بحقد وعنف الطغاة والقتلة هو أفضل وسيلة لأخذ مكانهم. وهذا أمر ترفضونه أنتم، كشعب.

على إجابتنا أن تكون على العكس، إجابة رجاء وشفاء وسلام وعدالة. والمطلوب منا إنما هو استجماع الشجاعة والفطنة من أجل حلّ الأزمات الحالية الاقتصادية والجغرافية-السياسية المتعددة. حتى في العالم المتطور، إن نتائج الهيكليّات والإجراءات الظالمة، هي كلّها واضحة جدًا. فينبغي على جهودنا أن تهدف إلى إعادة السلام، وإصلاح الأخطاء، واحترام الالتزامات، وبهذا، تعزيز رفاهة الأفراد والشعوب. علينا أن نتقدّم سويا، كأننا واحد، وبروح أخويّة وتضامنيّة متجدّدة، متعاونين بسخاء من أجل الخير العام.

إن التحدّيات التي نواجهها اليوم تدعونا إلى تجديد روح التعاون هذا، الذي صنعَ خيرًا كثيرا عبر تاريخ الولايات المتحدة. فتعقيد وخطورة وحاجة هذه التحديات الملحّة، تتطلب منا أن نتشارك في مواردنا ومواهبنا، وأن نصمّم على مساندة بعضنا البعض، مع احترام لاختلافاتنا ولقناعات الضمير.

في هذه الأرض، قد ساهمت مختلف الطوائف الدينية إلى حد كبير في بناء المجتمع وتعزيزه. فمِنَ المهمّ اليوم، كما في السابق، أن يبقى صوت الإيمان مسموعًا، لأنه صوت أخوّة ومحبّة، يحاول أن يُظهر أفضل ما في كلّ شخص وفي كلّ مجتمع. فالتعاون هذا يشكّلُ مصدرًا قويّا في محاربة أنواع العبوديّة العالميّة الجديدة، التي ولدت نتيجة ظلم بالغ يمكن التغلب عليه فقط من خلال سياسات جديدة وأشكال جديدة من التوافق الاجتماعي.

وهنا أفكّر في تاريخ الولايات المتّحدة السياسي، وقد تجذّرت عبره الديمقراطيةُ بعمق في ذهن الشعب الأميركي. إن أي نشاط سياسي يجب أن يكون في خدمة خير الإنسان وتعزيزه، وأن يقوم على احترام كرامة جميع الأفراد. "نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية، وهي أن البشر خُلِقوا متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معينة لا يمكن نكرانها والتصرف بها، وأن من بينها الحقّ في الحياة والحرية والسعي في سبيل نشدان السعاد" (وثيقة إعلان الاستقلال، 4 يوليو/تموز 1776). فإن كان من واجب السياسة حقًّا أن تكون في خدمة الإنسان، يترتّب على ذلك ألا تخضع للاقتصاد والمالية. فالسياسة، على العكس، هي تعبير عن حاجتنا الملحّة إلى العيش معًا باتّحاد، بهدف أن نَبنيَ، متّحدين، أعظم خيرٍ عام: خير جماعة تضحّي بالمصالح الخاصة، كي تتشارك، بعدل وسلام، بخيراتها ومصالحها وحياتها الاجتماعية. إني لا أستخفّ بالصعوبات التي ينطوي عليها هذا، إنما أشجعكم في هذا الجهد.

وأفكّر أيضًا في المسيرة التي قام بها مارتين لوتر كنغ من سِلما إلى مونتغمري منذ خمسين عامًا كجزءٍ من حملة لتحقيق "حلمه" بكامل حقوق الأفريقيين الأميركيين المَدَنيّة والسياسيّة. وما زال هذا الحلم مصدر إيحاء لنا جميعًا. إني سعيد بأن تبقى أميركا، للكثيرين، أرض "الأحلام". أحلامٌ تَدفَع للعمل والمشاركة والالتزام. أحلامٌ توقظُ ما هو عميق وحقيقي في حياة الأشخاص.

قد أتى الملايين من الناس إلى هذه الأرض في القرون الأخيرة، لتحقيق حلمهم في بناء مستقبل حر. ونحن، شعوب هذه القارة، لا نخاف من الغريب، لأن أعظمنا كان غريبًا في السابق. أقوله لكم كأبناء مهاجرين، وأعرف أن الكثيرين من بينكم ينحدر أيضًا من عائلات مهاجرة. ومن المأساوي، أن حقوق الذين سبقونا بزمن طويل إلى هذه الأرض لم تكن دائمًا محفوظة. وأود أن أعبر لهؤلاء الشعوب وأوطانهم، من مركز الديمقراطية الأميركية، عن احترامي وتقديري الكبيرين. لقد كانت العلاقات الأولى مضطربة وعنيفة، ولكنه من الصعب الحكم على الماضي مع معايير الحاضر. ومع ذلك، فحين ينادينا الغريب من وسطنا، لا ينبغي أن نكرّر خطايا وأخطاء الماضي. علينا أن نقرّر الآن العيش بالطريقة الأكثر نبلًا والأكثر عدلًا، هكذا كما نُعَلّم الأجيالَ الصاعدة ألا تغفل عن "القريب" وعن كلّ ما يحيط بنا. إن بناء الوطن يتطلب منا الاعتراف بأنه يجب علينا التواصل مع الآخرين على الدوام، رافضين ذهنية العداء، كي نستطيع تبنّي ذهنيّةَ الإعانة المتبادلة، في جهد متواصل لبذل قصارى جهدنا. إني على ثقة بقدرتنا على القيام به.

إن عالمنا يواجهُ اليوم أزمةَ اللاجئين بنسبة لم يشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا يضعنا أمام تحديات كبيرة وأمام العديد من القرارات الصعبة. في هذه القارة أيضًا، دُفِعَ الآلاف من الأشخاص إلى السفر نحو الشمال بحثًا عن حياة أفضل لهم ولأحبائهم، وبحثا عن المزيد من الفرص. أليس هذا ما نريده لأولادنا؟ علينا ألا نفزع من أعدادهم، بل أن نراهم كأشخاص، وأن ننظر إلى وجوههم ونصغي إلى قصصهم، محاولين بذل قصارى جهدنا في مساعدتهم. مساعدتهم بطريقة إنسانية، وعادلة وأخوية على الدوام. وعلينا أن نتفادى خطأً أصبح عامًا اليوم: استبعاد كلّ من يسبب إزعاجا. فلنتذكر القاعدة الذهبية: "افعَل للآخَرين ما تودُّ أن يفعلوه لك" (متى 7، 12).

إن هذه القاعدة تدلّنا على اتجاهٍ واضح. وهو معاملة الآخرين بنفس العاطفة والحنان اللتان نود أن نُعامَلُ بهما. والبحث عن نفس الفرص التي نبحث عنها من أجل أنفسنا، للآخرين. ومساعدة الآخرين على النمو، كما نودّ أن نُساعَد. بكلمة واحدة، إن أردنا الأمان، لنعطِ الأمان؛ إن أردنا الحياة، لنعطِ الحياة؛ إن أردنا الفرص، لنؤَمّن الفرص. فالْكَيْل الذي نَكِيلُ به للآخرين هو نفسه الذي سوف يكيل به الزمن لنا. تذكرنا القاعدة الذهبيةأيضًا بأن مسؤوليتنا هي بالمحافظة على الحياة البشرية وبالدفاع عنها في جميع مراحل نموها.

لقد قادتني هذه القناعة، منذ بداية خدمتي، إلى دعم إلغاء عقوبة الإعدام على مستويات عدة. إني على اقتناع أن هذا هو الطريق الأفضل، إذ إن كلّ حياة هي مقدسة، وكلّ شخص قد وُهِبَ كرامةً غير قابلة للتصرف، وأنه لا يمكن للمجتمع إلا أن يستفيد من إعادة تأهيل المُدانين بارتكاب الجرائم. لقد جدّد إخوتي الأساقفة مؤخرًا هنا في الولايات المتحدة نداءهم بإلغاء عقوبة الإعدام. إني لا أساندهم وحسب، بل أدعم أيضًا كلّ من كان على اقتناع بأن العقوبة العادلة والضرورية لا يجب أن تستبعد بُعدَ الرجاء وقصد إعادة التأهيل.  

لا يفوتني في أيامنا هذه، التي كثرت فيها الاهتمامات الاجتماعية، أن أذكر خادم الله دوروثي داي الذي أسس حركة العمّال الكاثوليك. لقد استوحت نشاطَها الاجتماعيّ وشغفها بالعدالة وبقضية المظلومين، من الإنجيل ومن إيمانها ومن مثال القديسين.  

كم من التقدّم قد أُحرِزَ في هذا المجال، في جهات عدّة من العالم! وكم من العملِ قد أُنجِزَ في هذه السنوات الأولى من الألفية الثالثة، من أجل إخراج العالم من الفقر المدقع! أعرف أنكم تشاركونني اقتناعي بوجوب عملِ المزيد بعد، وبوجوب عدم إضاعة روح التضامن العام في أوقات الأزمة والمصاعب الاقتصادية. وأَوَدُّ في الوقت عينه، تشجيعكم على عدم نسيان هؤلاء الأشخاص المحيطين بنا والمحاصرين في دوامة من الفقر. فلهم أيضًا يجب إعطاء الرجاء. إن محاربة الفقر والجوع يجب أن يستمر على عدّة جبهات، وبالأخص محاربتهما في أسبابهما. وإني على علم بأن العديد من الأميركيين اليوم، كما في السابق، يعملون على حل هذه المشكلة.          

لا حاجة للقول بأن خَلْق الثروات وتوزيعها يشكّل جزءًا من هذا المجهود الكبير. إن الاستعمال الصحيح للموارد الطبيعية، والتطبيق المناسب للتكنولوجيا والقدرة على توجيهٍ صالحٍ لروحِ المبادرة، هم عناصر أساسية في اقتصاد يريد أن يكون حديثًا وشاملًا ومستدامًا. "إن العمل هو رسالة نبيلة تهدف لإنتاج الغنى ونمو العالم. بإمكانه أن يكون مصدر ازدهار مثمر للمنطقة التي يتم فيها، لا سيما إن شهد خَلقَ فرصٍ للعمل، كجزء أساسي من خدمته للخير العام" (كُن مُسَبَّحًا، 129). هذا الخير العام يشمل الأرض، وهو الموضوع الرئيسي للرسالة العامة التي كتبتها مؤخرًا بهدف "الدخول بحوارٍ مع كل البشر حول بيتنا المشترك" (نفس المرجع، 3). "إننا بحاجة إلى حوار يجمعنا كلّنا، لأن التحدي البيئي الذي نواجه، وجذوره البشرية، تعنينا وتهمّنا جميعًا" (نفس المرجع، 14).

إني أدعو، في رسالتي العامة "كُنْ مُسَبَّحًا"، إلى جهدٍ شجاعٍ ومسؤول من أجل "إعادة توجيه خطواتنا" (نفس المرجع، 61)، وإلى تجنب أخطر تأثيرات التدهور البيئي الناتج عن النشاط البشري. إني على اقتناع أنه باستطاعتنا تغيير الأمور، وإني متأكد بأن لدى الولايات المتحدة – وهذا الكونغرس – دورًا هامًا في هذا الشأن. لقد حان الوقت لبدء أعمالٍ واستراتيجياتٍ هامة تهدف إلى خلق "ثقافة الرعاية" (نفس المرجع، 231) "ومقاربة متكاملة لمحاربة الفقر، ولإعادة الكرامة إلى المُنبوذين، وللمحافظة على الطبيعة في الوقتِ نفسه" (نفس المرجع، 139). "إننا نملك الحرية اللازمة لوضع حدّ للتكنولوجيا ولتوجيهها" (نفس المرجع، 112)؛ "لابتكار طرق ذكية ... لتوجيه وتطوير إمكانياتنا وللحدّ منها" (نفس المرجع 78)؛ ولوضع التكنولوجيا "في خدمة نوع آخر من التطور يكون أفضلًا من الناحية الصحّية والإنسانية والاجتماعية ويكون أيضًا متكاملًا" (نفس المرجع، 112). في هذا الشأن، إني واثق بأن المؤسسات الأكاديمية والبحثيّة الأميركية البارزة يمكنها أن تقدّم مساهمةً حيويّة في السنوات المقبلة. 

منذ قرن من الزمان، في بداية الحرب العظمى - التي وصفها البابا بندكتس الخامس عشر "بالقتل بدون هدف" – وُلدَ أميركي بارز آخر: الراهب البندكتي توماس مرتون. وهو ما زال يُعتبَر مَصدر إلهامٍ روحيّ ومرشد للكثير من الناس. كَتبَ في سيرته الذاتية: "لقد جئت إلى العالم. حرٌّ بطبيعتي، على صورة الله، ولكني كنت أَسيرَ عُنفي الشخصي وأنانيتي، على صورة العالم الذي فيه وُلِدت. هذا العالم كان صورة للجحيم، مملوء بأشخاص مثلي، يحبّون الله، ومع ذلك يكرهونه؛ وُلِدوا كي يحبوه، ولكنهم يعيشون خائفين من رغباتٍ ملؤها اليأس والتناقض". لقد كان مرتون قبل كل شيء رجل صلاة، ومفكّر تحدّى قناعات زمنه وفتح آفاق جديدة للأنفس وللكنيسة. وكان أيضًا رجل حوار، ومُرَوّج للسلام بين الشعوب والأديان.    

في سياق الحوار هذا، أودّ أن أعترف بالجهود التي بُذِلَت في الأشهرِ الأخيرة لمحاولةِ تخطّي خلافات تاريخيّة مرتبطة بأحداثٍ مؤلمة من الماضي. ومن واجبي أن أبني جسورا وأن أساعد جميع الرجال والنساء، وبأية طريقة، على العمل بالمثل. عندما تَستأنِفُ مسارَ الحوار، بلدانٌ كانت في السابق على خلاف – حوار قد يكون قد توقف لأسباب شرعيّة – تنفتحُ فرصٌ جديدةٌ أمام الجميع. وهذا قد تطلّب، ويتطلب الشجاعة والجرأة، التي لا تعني عدم مسؤوليّة. فالزعيم السياسي الجيّد، هو من يغتنم الوقت – واضعًا مصالح الجميع أمام عينيه – بروحٍ منفتحةٍ وحسٍّ واقعيّ. الزعيم السياسي الجيّد يفضّل دومًا "بدءَ العملِ على امتلاك المساحات" (را. فرح الانجيل، 222 - 223).  

أن نكون في خدمة الحوار والسلام يعني أيضًا أن نصمّم حقًّا على الحدّ من الصراعات المسلّحة وعلى إلغائها -على المدى الطويل- في جميع أنحاء العالم. وهنا علينا أن نتساءل: لماذا تُباع الأسلحة للذين يخطّطون لإلحاق معاناةٍ لا توصف بالأشخاص وبالمجتمعات؟ والجواب للأسف، كما نعلم كلّنا، هو من أجل المال بكلّ بساطة: مال ملطّخ بالدماء، وغالبًا ما يكون دم الأبرياء. أمام هذا الصمت المُخجِل والمُذنِب، من واجبنا أن نواجه المشكلة وأن نضع حدًّا للتجارة بالأسلحة.

ثلاثة أبناء وبنت من هذه الأرض، أربعة أفراد وأربعة أحلام: لينكولن، الحرية؛ مارتن لوتر كنغ، الحريّة في التعدّد وعدم التهميش؛ دوروثي داي، العدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد؛ وتوماس مرتون، القدرة على الحوار والانفتاح على الله.

أربعة ممثّلون عن الشعب الأميركي!

سوف أنهي زيارتي إلى بلدِكم في فيلادلفيا، حيث سوف أشارك في اللقاء العالمي للعائلات. وأمنيتي هي أن يكون موضوع العائلة، طيلة هذه الزيارة، موضوعًا متكرّرًا. كم كانت العائلة أساسية في بناء هذا الوطن! وكم تبقى جديرة بدعمنا وتشجيعنا! ومع ذلك فلا يمكنني أن أخفي قلقي على العائلة، التي هي مهدّدة، ربما كما لم يحدث من قبل، من الداخل ومن الخارج. لقد تم التشكيك بالعلاقات الأساسية، كما وقد تم التشكيك بالأسس التي يقوم عليها الزواج وتقوم عليها الأسرة. ولا يمكنني إلا أن أؤكّد على أهمّية، وقبل كلّ شيء، على غنى الحياة العائلية وعلى جمالها.

أودّ بالأخص أن ألفت الانتباه إلى أفراد الأسرة، هؤلاء الأكثر ضعفًا، الشباب. ينتظرُ الكثيرَ منهم، مستقبلٌ مليء بالفرص التي لا تُحصى، ولكن الكثير من الشباب الآخرين يبدون مشوّشين وبدون هدف، مُحاصرين في متاهة بلا رجاء، تتّسم بالعنفِ وسوءِ المعاملة والإحباط. مشاكلهم هي مشاكلنا. ولا يمكننا تفاديهم. علينا أن نواجههم سويا، وأن نتكلم عنهم وأن نبحث عن حلول فعّالة بدل أن نغوص في المناقشات. يمكننا أن نقول، وقد يكون تبسيطًا للأمور، أننا نعيش في ثقافة تدفع الشباب على عدم تأسيس أسرة، لأنهم لا يملكون الفرص للمستقبل. ومع ذلك، هذه الثقافة نفسها تقدّم إلى آخرين الكثيرَ من الفرص، وهم أيضًا يُثنَون عن تأسيس أسرة.

يمكن لدولة أن تُعتبر عظيمة حين تدافع عن الحريات كما فعل لينكولن، وحين تُعزّز ثقافةً تسمحُ للناس بأن تحلم بكامل الحقوق لإخوتهم وأخواتهم، كما سعى إليه مارتن لوتر كنغ؛ وحين تناضل من أجل العدالة وقضايا المظلومين، كما فعلت دوروثي داي بعملها الدؤوب، ثمرة إيمانٍ يُصبح حوارًا ويزرعُ سلامًا بأسلوبِ توماس مرتون التأملي.

أردتُ بهذه الملاحظات أن أقدم البعض من ثروات تراثكم الثقافي وروح الشعب الأميركي. أمنيتي هي أن يستمر هذا الروح بالتطور والنمو، بحيث أن يكون باستطاعة أكبر عدد ممكن من الشباب أن يرث وأن يسكن أرضًا قد أوحت إلى الكثيرين بأن يحلموا.

ليبارك الله أميركا!

 

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2015

 

 


Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana