Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PT ]

عظة قداسة البابا فرنسيس

خلال القدّاس الإلهيّ

بمناسبة اختتام سينودس الأساقفة لمنطقة الأمازون

بازليك القدّيس بطرس

الأحد 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019

[Multimedia]


 

تساعدنا كلمة الله اليوم على الصلاة من خلال ثلاث شخصيّات: صلاة الفرّيسي والعشار في المثل الذي أعطاه يسوع، وصلاة الفقير التي تحدّثنا عنها القراءة الأولى.

1. تبدأ صلاة الفرّيسي هكذا: "الَّلهُمَّ، شُكرًا لَكَ" (لو 18، 11). إنها بداية رائعة، لأن أفضل صلاة هي صلاة الامتنان، وصلاة الحمد. لكننا نرى على الفور دوافع شكره: "لأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ" (نفس المرجع). ومن ثمّ يفسّر دوافعه: فهو يصوم مرّتين في الأسبوع، في حين أن الصوم الإلزامي آنذاك كان مرّة واحد في السنة؛ ويؤدّي عُشر كلّ ما يقتني، فيما كان العُشر مفروضًا فقط على أهمّ المنتجات (را. تث 14، 22). باختصار، كان يفتخر لأنه كان يفي بأفضل شكل في بعض الوصايا الخاصّة. لكنه نسيَ أعظم وصيّة: محبّة الله والقريب (را. متى 22، 36- 40). لقد فاضت ثقته بذاته، وبقدرته الذاتيّة على حفظ الوصايا، وعلى استحقاقاته وفضائله، فوضع كلّ تركيزه على نفسه. إن مأساة هذا الرجل هي في كونه خال من المحبّة. ولكن حتى أفضل الأشياء، بدون محبّة، تكون عديمة الفائدة، كما يقول القدّيس بولس (را. 1 قور 13). بدون المحبّة، ما هي النتيجة؟ فقد كان في النهاية، بدلاً أن يصلّي، يمدح نفسه. وفي الحقيقة، لم يطلب من الربّ شيئًا، لأنه لم يشعر بأنه محتاج أو مدين له، بل كان واثقًا من نفسه. هو في هيكل الله، ولكنه يمارس ديانة أخرى، ديانة الأنا. والكثير من المجموعات "الكريمة"، "مسيحيين كاثوليك"، يسلكون هذا الدرب.

وإلى جانب الله ينسى قريبه، حتى أنه يحتقره. أي أن لا اعتبار له بالنسبة إليه، ولا قيمة. فهو يعتبر نفسه أفضل من الآخرين الذين دعاهم حرفيًا "سائر الناس" (لو 18، 11). إنهم "البقية"، الفضلات التي يبتعد عنها. كم من مرّة نرى هذه الديناميكية تحدث في الحياة وفي التاريخ! كم من مرّة، نرى الشخص الواقف في الأمام، مثل الفرّيسي أمام مع العشّار، يبني الجدران كيما يضاعف المسافات، فيزيد من استبعاد الآخرين. وإذ يعتبرهم متخلّفين وذات قيمة صغيرة، يستهزئ بتقاليدهم، ويلغي تاريخهم، ويحتلّ أراضيهم ويتعدّى على خيراتهم.كم من تفوّق مزعوم، يتحوّل إلى اضطهاد واستغلال، حتى في يومنا هذا –لقد لمسناه في السينودس عندما تكلّمنا عن استغلال الخلق، والأشخاص، وسكّان الأمازون، والتجارة بالأشخاص، والمتاجرة بالأشخاص! ولم تكفِ أخطاء الماضي لإيقاف نهب الآخرين وإلحاق الضرر بإخوتنا وبأختنا الأرض: وقد رأيناه على وجه منطقة الأمازون المجروحة. إن ديانة الأنا ما زالت مستمرّة، بنفاقها عبر طقوسها و"صلواتها"-والكثير هم كاثوليك، يقولون إنهم كاثوليك، ولكنهم لا يعيشون كمسيحيين، بإنسانية-، وتتناسى عبادة الله الحقيقية، التي تمرّ دائمًا من خلال محبّة القريب. حتى المسيحيّين الذين يصلّون ويذهبون إلى قدّاس يوم الأحد يخضعون لديانة الأنا. يمكننا أن ننظر في داخلنا ونرى ما إذا كان هناك شخص أقلّ شأنًا بالنسبة لنا، ومستبعد، حتى لو كان ذلك بالكلمات فقط. لنصلِّ طالبين نعمة عدم اعتبار أنفسنا أفضل من الآخرين، وعدم الظنّ بأن كلّ شيء فينا على ما يرام، وعدم التحوّل إلى أشخاص ساخرين ومستهزئين. لنسأل يسوع أن يشفينا من النميمة ومن اشتكاء الآخرين، ومن احتقار أيّ شخص: فهذه الأمور لا ترضي الله. وبفضل العناية الإلهية، لا يرافقنا اليوم أهالي الأمازون وحسب في هذا القدّاس: إنما أيضًا فقراء المجتمعات المتقدّمة، الإخوة والأخوات المرضى من جماعة الفُلك (Arche). هم معنا، في الطليعة.  

2. ننتقل إلى الصلاة الثانية. تساعدنا صلاة العشّار على فهم ما يرضي الله. فهو لا يبدأ صلاته من استحقاقاته، بل من عيوبه؛ لا ينطلق من غناه، بل من فقره: ليس المقصود هنا هو الفقر الاقتصادي -إذ كان العشّارون أغنياء وكانوا يسترزقون أيضًا بشكل غير عادل، وعلى حساب مواطنيهم-، ولكنه يشعر بفقر حياته، لأنه في الخطيئة لا يعيش المرء حياة جيّدة. هذا الرجل الذي يستغلّ الآخرين يعترف بفقره أمام الله الذي يسمع صلاته، التي تتكوّن من سبع كلمات فقط، ولكن من مواقف حقيقية. ففيما كان الفِرِّيسيُّ قائِمًا في الطليعة (را. آية 11)، وقف العشّار بعيدًا "لا يَجْرُؤُ أنْ يَرفَعَ عَينَيهِ نحوَ السَّماءِ" (لو 18، 13)، لأنه يؤمن بأن السماء موجودة وهي عظيمة، بينما يشعر أنه صغير. وكانَ "يَقرَعُ صَدرَه" (را. آية 13)، لأنه في الصدر يوجد القلب. إن صلاته تنبع من القلب بالتحديد، وكانت شفافة: وضع قلبه أمام الله، وليس المظاهر. أن نصلّي يعني أن نسمح لله بأن ينظر إلى داخلنا -فالله هو من ينظر إليّ حين أصلّي-، دون ادّعاء، ودون أعذار ودون مبرّرات. كثيرًا ما تُضحِكُنا الاعترافات المملوءة مبرّرات. فهي تبدو تقديسًا للذات أكثر منها توبة. لأن عدم الشفافية والكذب –هذه هي المبرّرات- هما من الشيطان، أمّا النور والحقيقة فهما من الله –وشفافية قلبي. لقد كان من الجميل، وأنا ممتنّ للغاية، أيها الآباء والإخوة الأعزّاء المشاركون في السينودس، لأننا تحدّثنا من القلب في هذه الأسابيع الأخيرة، بجدّية وبساطة، واضعين أمام الله والإخوة المصاعب والآمال.

إننا نكتشف اليوم، إذ ننظر إلى العشّار، نقطة انطلاقنا الجديدة: وهي اعتقادنا بأننا في حاجة إلى الخلاص، جميعنا. إنها الخطوة الأولى لديانة الله، الذي يرحم الذين يعترفون ببؤسهم. أمّا أصل كلّ خطأ روحي، كما علّم الرهبان القدماء، هو اعتقادنا أننا أبرار. اعتقادنا أننا أبرار يعني أن نترك الله، البارّ الأوحد، خارجًا. إن نقطة الانطلاق هذه هي مهمّة جدًا لدرجة أن يسوع يظهرها لنا بمقارنة تناقضيّة، حيث يجمع بين الشخص الأكثر تقوى وتعبّدًا في الهيكل آنذاك، الفرّيسي، وبين الخاطئ العام بامتياز، العشّار. والحكم ينقلب: فمن هو صالح ولكن مدّعٍ يفشل، ومن هو خائب ولكن متواضع يُرفَع من قِبَلِ الله. إذا نظرنا في داخلنا بجدّية، فسوف نرى كليهما، العشّار والفرّيسي. فنحن عشّارون بعض الشيء، لأننا خاطئون، وفرّيسيون بعض الشيء، لأننا مُدَّعون، قادرون على تبرير أنفسنا، ونَبرع في تبرير أنفسنا! غالبًا ما ننجح في هذا مع الآخرين، ولكن مع الله، لا. فالتبرير لا يجدي مع الله. لنسأل نعمة أن نشعر بحاجتنا إلى الرحمة، وفقرنا الداخلي. ولذا فمن المفيد أن نختلط بالفقراء، كي نذكّر أنفسنا بأننا فقراء، ونذكّر أنفسنا بأن خلاص الله يعمل فقط في جوّ من الفقر الداخلي.

3. ونصل هكذا إلى صلاة الفقير، في القراءة الأولى. يقول فيها سفر يشوع بن سيراخ أنها "تخترق الغيوم" (35، 21). فيما أن صلاة الذي يزعم بأنه بارّ تبقى على الأرض، وتسحقها قوّة جاذبية أنانيّته، ترتفع صلاةُ الفقير مباشرة إلى الله. وقد رأى الحسّ الإيماني لدى شعب الله في الفقراء "أبوابَ السماء": ذاك الحسّ الإيماني الذي افتقرت إليه صلاة الفرّيسي. فهم الذين سيفتحون، أم لا، أبواب الحياة الأبديّة أمامنا، هم الذين لم يعتبروا أنفسهم أسيادًا في هذه الحياة، والذين لم يفضّلوا أنفسهم على الآخرين، والذين اغتنوا بالله فقط. إنهم أيقونات حيّة للنبوّة المسيحيّة.

لقد مُنِحَت لنا في هذا السينودس، نعمةُ الاستماع إلى أصوات الفقراء والتأمّل في هشاشة حياتهم، المهدّدة بنماذج التطوّر المفترس. ومع ذلك، وفي هذه الحالة بالتحديد، شهد الكثيرون لنا أنه من الممكن أن ننظر إلى الواقع بطريقة مختلفة، ونقبله بأيادٍ مفتوحة كهبة، فنسكن الخلق، لا كوسيلة نستغلّها إنما كبيت نحرسه واضعين ثقتنا بالله. فهو أب، ويقول يشوع بن سيراخ: "يَستَجيبُ صَلاةَ المَظْلوم" (آية 13). كم من مرّة، حتى في الكنيسة، لا نسمع أصوات الفقراء، وربما نسخر منها، أو نسكتها، لأنها مزعجة. لنصلَّ سائلين نعمة الاصغاء إلى صرخة الفقراء: إنها صرخة رجاء الكنيسة. صرخة الفقراء هي صرخة رجاء الكنيسة. في تبنّينا لصرختهم ستخترقُ صلاتُنا أيضًا، بالتأكيد، الغيوم.

 

***********

 

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019

 

 


Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana