Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PT ]

التأمّل الأوّل

في كاتدرائية القديس يوحنا اللاتراني

بمناسبة يوبيل الكهنة

الخميس 2 يونيو/حزيران 2016

[Multimedia]


 

أيها الكهنة الأعزاء، صباح الخير!

نبدأ هذا اليوم من الرياضة الروحية. أظن بأنه من المفيد أن نصلي بعضنا لبعض، بشركة روحية. رياضة روحية، ولكن في شركة، جميعنا.

لقد اخترت موضوع الرحمة. ولكن في البدء مقدّمة صغيرة، للرياضة بأسرها.

إن الرحمة، في جانبها الأكثر أنوثة، هي الحب الوالدي، الذي يتأثّر إزاء هشاشة طفلها المولود حديثًا وتعانقه، وتقدّم له كل ما ينقصه لكي يعيش وينمو (rahamim)؛ وفي جانبها الرجولي، هي أمانة الآب القويّة، الآب الذي يعضد ويغفر على الدوام، ويعيد أبناءه إلى السير مجدّدا. الرحمة هي ثمرة "عهد" – ولذلك يُقال إن الله يتذكّر عهد الرحمة (hesed) الذي يقطعه -، كـ "عهد" محبّة وصلاح مجانيّ ينبثق من عمق أعماق سيكولوجيّتنا ويُترجم بعمل خارجي (يصبح إحسان eleos). وهذه الشموليّة تسمح بأن يكون التصرّف برحمة في متناول الجميع، كما والشعور بالشفقة تجاه من يتألّم، والتأثّر إزاء المعوزين، والاستياء والامتعاض إزاء ظلم واضح والتصرُّف بشكل فوري للقيام بشيء ملموس، باحترام وحنان، لحلّ الوضع. وانطلاقًا من هذا الشعور النابع من الأحشاء، يكون في متناول الجميع النظر إلى الله من منظار هذه الصفة الأولى والأخيرة التي من خلالها أراد يسوع أن يُظهره لنا: اسم الله رحمة.

عندما نتأمّل حول الرحمة يحصل أمر مميّز. ديناميكيّة الرياضة الروحيّة تتقوّى من الداخل. فالرحمة تُظهر أن الدروب الموضوعيّة للتصوّف التقليدي -تُطهّر، تنير وتوحِّد- ليست أبدًا مراحل متتالية يمكن تركها وراءنا. نحن بحاجة إلى توبة جديدة على الدوام، وإلى مزيد من التأمل وإلى محبّة متجدّدة. هذه المراحل الثلاث تتشابك وتعود. لا شيء يجمعنا بالله بشكل أكبر كعمل الرحمة -وهذا ليس من قبيل المبالغة: ما من شيء يجمعنا بالله بشكل أكبر كعمل الرحمة- أكانت الرحمة التي من خلالها يغفر لنا الرب خطايانا، أم النعمة التي يعطينا إياها لنقوم بأعمال الرحمة باسمه. لا شيء ينير الإيمان أكثر من أن نتطّهر من خطايانا، وما من شيء أوضح من الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متى وذاك القول "طوبى للرحماء فإنَّهم يُرحمون" (متى 5، 7) لنفهم ما هي مشيئة الله والمهمّة التي يرسلنا للقيام بها. يمكننا أن نطبّق على الرحمة تعليم يسوع القائل: "فكَما تَدينونَ تُدانون، ويُكالُ لكُم بِما تَكيلون" (متى 7، 2). استأذنكم، ولكني أفكر الآن بالكهنة المُعرّفين الذين "يقرعون" التائبين، ويوبّخونهم. إن الله سوف يعاملهم بالمثل! لهذا السبب على الأقل، لا تفعلوا هذا. الرحمة تسمح لنا بالانتقال من الشعور بكوننا موضوعًا للرحمة إلى الرغبة بتقديم الرحمة. والشعور بالخجل بسبب خطايانا يمكن أن يتعايش بوتيرة سليمة مع الشعور بالكرامة التي يرفعنا الرب إليها. ويمكننا أن ننتقل بدون تمهيد من البعد إلى العيد، كما في مَثَل الابن الضال، ونستعمل خطيئتنا بالذات كإناء للرحمة. أكرر هذا، وهو مفتاح التأمل الثاني: نستعمل خطيئتنا بالذات كإناء للرحمة. تدفعنا الرحمة للانتقال من الشخصي إلى الجماعي. عندما نتصرّف برحمة، كما في آيتيّ تكثير الخبز التي تولَدُ من شفقة يسوع على شعبه والغرباء، يتكاثر الخبز بقدر ما تتمّ المشاركة به.

ثلاثة اقتراحات

ثلاثة اقتراحات لهذا اليوم من الرياضة الروحية.

إن الإلفة الفرِحة والحُرَّة التي تقوم على جميع المستويات بين الذين يتواصلون بين بعضهم البعض بواسطة رابط الرحمة –إلفة ملكوت الله، هكذا كما يصفها يسوع في أمثاله– تقودني لأقترح عليكم ثلاثة أمور لصلاتكم الشخصيّة في هذا اليوم.

الاقتراح الأول يتعلّق بنصيحتين عمليّتين يعطيهما القديس اغناطيوس –أعتذر لهذه الدعاية "العائلية"- الذي يقول: "ليست المعرفة الكثيرة هي التي تملأ النفس وتُرضيها وإنما الشعور بأمور الله وتذوقها في داخلنا" (الرياضات الروحيّة، 2). ويضيف القديس اغناطيوس أنه حيث يجد المرء ما يريده ويجد فيه لذّة، فليقف هناك للصلاة "بدون الخوف من الانتقال إلى شيء آخر، طالما هذا الأمر يرضيني" (نفس المرجع، 76). وهكذا، في هذه التأملات حول الرحمة، يمكن للمرء أن يبدأ من حيث يعجبه أكثر ويتوقّف هناك، بما أن عمل الرحمة سيقوده بالتأكيد إلى أعمال أخرى. إذا بدأنا بالشكر للرب الذي خلقنا بشكل مذهل وخلّصنا بشكل أكثر ذهولاً، فسيقودنا هذا الأمر بالتأكيد إلى الشعور بالأسى بسبب خطايانا. إذا بدأنا بالشعور بالشفقة تجاه الأشدّ فقرًا والبعيدين، فسنشعر بالتأكيد نحن أيضًا بضرورة نَيلِ الرحمة.

الاقتراح الثاني للصلاة يتعلّق بأسلوب جديد لاستعمال كلمة رحمة. كما وقد تيقّنتم، يطيب لي، في الحديث عن الرحمة، أن أستعمل الجملة الفعليّة: ينبغي إعطاء الرحمة (misericordiar باللغة الإسبانية، أي "نَرحَم"، علينا أن نتعدّى على اللغة-لأنه فعل غير موجود في هذه اللغة)، لنَيلِ الرحمة (ser misericordiados، كي "نُرحَمَ"). "ولكن يا أبانا، هذا غير صحيح لغويا!" – "أجل، ولكن هذا هو الشكل الذي وجدته كي أدخل المعنى: "نَرحَم" كي نُرحَم". فحقيقة أن الرحمة تُدخِل بؤسًا بشريًّا في علاقةٍ مع قلب الله، تجعل التصرّف يولد على الفور. لا يمكننا أن نتأمّل حول الرحمة دون أن يتحرّك كلّ شيء. بالتالي، ليس من الجيّد أن نحلّل بشكل عقلاني خلال الصلاة. بسرعة، وبمساعدة النعمة، ينبغي على حوارنا مع الرّب أن يتمحور حول: أيّ من خطاياي يتطلّب أن تحلّ عليّ رحمتك يا رب، حيث أشعر بخجل أكبر وأرغب أكثر بأن أعوِّض؛ وبسرعة، علينا أن نتحدّث عمّا يجعلنا نتأثّر، عن تلك الوجوه التي تحملنا على رغبة قوية بالعمل لنجد حلّاً لجوعهم وعطشهم لله وللعدالة والحنان. يمكننا أن نتأمّل بالرحمة عبر العمل. ولكنه نوع من العمل يشمل الكلّ: فالرحمة تشمل كلّ كياننا –أحشاء وروحًا– وكلّ الكائنات.

أما الاقتراح الأخير لهذا اليوم فيتعلّق بثمار الرياضة الروحيّة، أي، بالنعمة التي ينبغي أن نطلبها والتي هي، بشكل مباشر، أن نصبح كهنة قادرين أكثر فأكثر على نيل الرحمة ومنحها. إن اعتراف الكاهن هو من أجمل الأشياء التي تؤثر بي: إنه أمر عظيم، وجميل، لأن هذا الرجل الذي يقترب للاعتراف بخطاياه، هو نفسه الذي يصغي إلى قلب شخص آخر يأتي للاعتراف بخطاياه. يمكننا أن نركّز على الرحمة لأنّها الواقع الجوهري والنهائي. من خلال درجات الرحمة (را. الرسالة العامة كن مسبّحًا، 77) يمكننا أن ننزل وصولاً إلى النقطة الأكثر انخفاضًا في طبيعتنا البشريّة –بما فيها الهشاشة والخطيئة– وأن نصعد إلى النقطة الأعلى في الكمال الإلهي: "كونوا رحماء (كاملين) كما أن أباكم رحوم هو". ولكن على الدوام بهدف "تجميع" المزيد من الرحمة فقط. من هنا ينبغي أن تأتي ثمار توبة ذهنيّتنا المؤسّساتيّة: فإن كانت هيكليّاتنا لا تُعاش ولا تُستعمل لننال رحمة الله بشكل أفضل ولنكون رحماء أكثر مع الآخرين، يمكنها أن تتحول عندها إلى شيء مختلف تمامًا ومعاكس. وكثيرا ما يُذكر ذلك في بعض الوثائق الكنسية وفي بعض خطب الباباوات: أي التوبة المؤسساتية، التوبة الرعوية.

وبالتالي ستسير هذه الرياضة الروحيّة في درب هذه "البساطة الإنجيليّة" التي تفهم كل الأمور وتقوم بها في ضوء الرحمة. رحمة ديناميكيّة، لا كإسمٍ وكأنه شيء ومحدّد، ولا كصفة تزيّن الحياة قليلاً، وإنما كفعل –فعل الرحمة ونيل الرحمة، "نَرحَم" و"نُرحم". وهذا يدفعنا نحو العمل في قلب العالم. وأيضًا كرحمة "تتزايد باستمرار"، كرحمة تنمو وتكبر وتتقدّم من جيّد إلى أفضل، منتقلة من القليل إلى الأكثر، لأن الصورة التي يقدّمها يسوع هي صورة الآب الذي يعظُمُ باستمرار –فالله هو دومًا أعظم- ورحمته اللامتناهية تنمو –إذا صحّ القول– ولا رأس لها ولا قعر لأنها تأتي من حريّته السيّدة.

التأمّل الأول: من البُعد إلى العيد

 

والآن ننتقل إلى التأمل الأول. لقد وضعت العنوان "من البعد إلى العيد". إذا كانت رحمة الإنجيل، كما قلنا، إفراطًا من قبل الله، وفيضًا لم يُسمع به من قبل؛ أولّ شيء ينبغي القيام به إذًا هو أن ننظر أين يحتاج عالم اليوم وكلّ شخص إلى فائض حبٍّ كهذا. وقبل كلّ شيء أن نسأل أنفسنا أيّ إناء لرحمة كهذه وأيّ أرض قاحلة وجافة لهذا الفيض من الماء الحيّة؛ أيّ جراح لهذا الزيت المُلطِّف؛ أيّة حالة يُتمٍ تحتاج لبذل ذات بعطف واهتمام؛ وأيّة مسافة لعطش كبير بهذا الشكل إلى عناق ولقاء...

إن المثل الذي أقترحه عليكم لهذا التأمّل هو مثل الآب الرحوم (را. لو 15، 11- 31). نضع أنفسنا في إطار سرّ الآب. وأودّ أن أبدأ من تلك اللحظة التي يكون فيها الابن الضال في حظيرة الخنازير، في جحيم الأنانية التي فعلت كلَّ ما كانت تريده، وحيث بدلاً من أن يكون حرًّا وجد نفسه عبدًا؛ يراقب الخنازير وهي تأكل الخرنوب... يحسدها ويشعر بالحنين. حنين: إنها كلمة أساسية. حنين إلى الخبز الطازج الذي يأكله الأجَراء في بيت أبيه على الفطور. الحنين هو شعور قدير؛ يشابه الرحمة لأنّه يوسِّع النفس ويذكِّرنا بالخير الأول –الوطن الذي أتينا منه– ويوقظ فينا الرجاء بالعودة. ألم الحنين. في أفق الحنين الواسع هذا –يقول لنا الإنجيل– رجع هذا الشاب إلى ذاته وشعر بأنّه بائس. وباستطاعة كلّ منّا أن يبحث عن هذه النقطة أو أن يسمح بأن يُحمل إليها، حيث يشعر بأنه أكثر بؤسا. كلّ منا يحمل سر بؤسه في داخله... علينا أن نسأل نعمة العثور عليه.

بدون أن نتوقّف الآن لنصف بؤس حالته، ننتقل إلى اللحظة الأخرى حيث، وبعد أن عانقه أبوه وقبّله بفرح، يجد نفسه متسخًا ولكنّه يلبس حُلّة العيد. لأن الآب لا يقول له: "إذهب، إغتسل ثم عُد". كلا؛ متّسخًا ويلبس حُلّة العيد. يضع الخاتم في إصبعه كوالده، ويلبس حذاء جديدًا في قدميه، ويقف وسط الاحتفال وبين الناس. شيء يشبه، إن كان قد حصل هذا الأمر معنا، عندما نكون قد اعترفنا قبل القداس ووجدنا فورًا أنفسنا "لابسين حلّة العيد" في وسط احتفال. هذه حالة من الكرامة الخجولة.

كرامة خجولة

لنتوقّف عند "الكرامة الخجولة" لهذا الابن الضال والحبيب. إن اجتهدنا، بصفاء، لنُبقِي على قلبنا بين هذين الطرفين –الكرامة والخجل– بدون أن نهمل أيًّا منهما، قد نتمكّن ربما من أن نفهم كيف ينبض قلب أبينا. كان قلبٌ ينبض القلق، عندما كان يصعد يوميا إلى السطح ليرى. ماذا كان يرى؟ إن كان الابن يعود... ولكن في هذه النقطة، في هذا المكان حيث توجد الكرامة والخجل، يمكننا أن نتصوّر كيف ينبض قلب أبينا. يمكننا أن نتخيّل أن الرحمة تتدفّق منه كالدم، وأنّه يخرج ليبحث عنا –نحن الخطأة– وأنه يجتذبنا إليه ويطهّرنا ويُطلقنا ثانيةً مُجدَّدين نحو جميع الضواحي، لنحمل الرحمة للجميع. دمه هو دم المسيح، دم عهد الرحمة الجديد والأزلي، الذي يُراق عنا وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا. هذا الدم نتأمّله فيما يدخل ويخرج من قلبه ومن قلب الآب. إنه كنزنا الوحيد، والشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقدّمه للعالم: الدم الذي يطهّر ويصالح كلّ شيء والجميع. دم الرّب الذي يغفر الخطايا. الدم الذي هو مشروب حقّ والذي يقيم من الموت ويعطي الحياة لمن مات بسبب الخطيئة.

لنطلب، في صلاتنا، الهادئة، التي تنتقل من الخجل إلى الكرامة ومن الكرامة إلى الخجل –الاثنان معًا- نعمةَ الشعور بأن رحمة كهذه تكوّن حياتنا بأسرها؛ لنطلب النعمة بأن نشعر كيف يتّحد نبض قلب الآب بنبض قلبنا. لا يكفي أن نشعر برحمة الله كعملٍ يقوم به أحيانًا ليغفر لنا خطيئة كبيرة، وفيما تبقّى ندبّر أمورنا وحدنا وبشكل مُستقل. لا يكفي.

يقدّم القديس اغناطيوس صورة من قِيَمِ الفرسانيّة التي تخصّ حقبته، ولكن وبما أن الوفاء بين الأصدقاء هو قيمة أزليّة فبالتالي يمكنها أن تساعدنا. فهو يؤكّد أنه، ولكي نشعر بـ "الاضطراب والخجل" بسبب خطايانا (دون أن نتوقّف عن الشعور بالرحمة) يمكننا أن نستعين بمثل: لنتخيّل "فارسًا يقف أمام ملكه وحاشيته، وهو مليء بالخجل ومضطرب لأنّه أهانه كثيرًا، فيما أنه قد نال في السابق من الملك الكثير من العطايا والنعم" (الرياضات الروحية، 74). لنتخيّل هذا المشهد. مع ذلك، وباتباع ديناميكيّة الابن الضال في العيد، نتخيّل هذا الفارس كشخص، بدلاً من أن يشعر بالخجل أمام الجميع، يمسكه الملك فجأة بيده ويعيد إليه كرامته. ونرى أنّه لا يدعوه فقط لاتباعه في معركته بل يضعه في طليعة رفاقه. بكم من التواضع والوفاء سيخدمه هذا الفارس من الآن فصاعدًا! يذكّرني هذا بالمقطع الأخير من الفصل السادس عشر من سفر حزقيال، المقطع الأخير.

إن كان يشعر كالابن الضال المحتفى به، أو كالفارس غير المُخلص الذي تحوّل إلى رئيس، المهم أن يضع كل واحد نفسه في وتيرة خصبة حيث تضعنا رحمة الرب لا في إطار خطأة غُفر لهم وحسب، وإنما خطأة أُعيدت إليهم كرامتهم أيضًا. إن الرب لا يغسلنا وحسب بل يكلّلنا ويعطينا الكرامة.

يقدّم لنا سمعان بطرس الصورة الكهنوتيّة لهذه الوتيرة السليمة. فالرب يربّيه ويُنشِّئه تدريجيًّا ويمرّنه ليُبقِي على ذاته هكذا: سمعان وبطرس. الرجل العادي بتناقضاته وضعفه، وذاك الذي يُدعى صخرًا، والذي يملك المفاتيح، والذي يقود الآخرين. عندما قاده أندراوس إلى المسيح، هكذا كما كان، بثياب صياد السمك، أعطاه الرب اسم صخر. وما أن انتهى من مدحه على إعلان الإيمان القادم من الآب، وبّخه بقساوة على تجربة الإصغاء لصوت الروح الشرير الذي يقول له أن يبقى بعيدًا عن الصليب. دعاه للسير على المياه وتركه حتّى بدأ يغرق في خوفه، ليمدَّ بعدها له يده فورًا؛ وما أن اعترف بأنّه خاطئ حتى أعطاه الرسالة بأن يكون صيادًا للبشر؛ سأله تكرارًا عن محبّته وجعله يشعر بالألم والخجل لعدم إخلاصه ولجُبنه، ولكن ولثلاث مرّات أوكل إليه مهمّة أن يرعى خرافه. دائمًا هذين القطبين.

علينا أن نضع أنفسنا هنا، في الفسحة التي يتعايش فيها بؤسنا الأشدّ خجلاً وكرامتنا الأسمى. ماذا نشعر عندما يقبّل الناس أيدينا، ونحن ننظر إلى بؤسنا العميق، ونحن مُكَرَّمون من قِبَلِ شعب الله؟ وهنا توجد حالة أخرى لفهم هذا. التباين، على الدوام. يجب علينا أن نضع أنفسنا، في المكان حيث يتعايش بؤسنا الأكثر خجلا وكرامتنا الأسمى. في نفس المكان. قذرون وغير أنقياء، بؤساء ومتكبّرون -والغرور هو خطيئة الكهنة- وأنانيّون وفي الوقت عينه بأقدام مغسولة، مدعوون ومختارون، منصبّون على توزيع الخبز الذي كُثِّر، مباركون من أُناسنا ومحبوبون ومُعتنى بنا. وحدها الرحمة تجعل هذا الموقف مُحتَمَلاً. بدونها إما نعتقد أنفسنا أبرارًا كالفريسيّين أو نبتعد كهؤلاء الذين يشعرون أنّهم غير مستحقّين. وفي الحالتين تتصلّب قلوبنا. أو عندما نشعر بأننا أبرارا مثل الفريسيين، أو عندما نبتعد مثل أولئك الذين يشعرون بعدم استحقاقهم. لا أشعر بأني مستحق، ولكن لا يجب أن أبتعد: يجب أن أكون هناك، في الخجل بكرامة، كلاهما معًا.

لنتعمّق بالأمر بعض الشيء: ما هو سبب خصوبة هذه الوتيرة بين البؤس والكرامة، وبين البعد والعيد؟ أعتقد بأنها خصبة لأن الإبقاء عليها يولَد من قرار حرّ. والرب يعمل بشكل رئيسيٍّ على حريّتنا، مع أنّه يساعدنا في كلّ شيء. إن الرحمة هي مسألة حريّة. والشعور يتدفّق بشكل عفوي، وعندما نؤكّد أنه ينبع من الأحشاء يبدو أنه مرادف لـ "حيواني"، لكن الحيوانات في الواقع لا تعرف الرحمة "الخلقيّة"، بالرغم من أن بإمكان بعضهم أن يختبروا شيئًا من هذه الشفقة، كالكلب الأمين الذي يبقى بقرب صاحبه المريض. الرحمة هي تأثُّر يلمس الأحشاء، ومع ذلك يمكنها أن تنبع أيضًا من ذكاء حاد –مباشرة كشعاع، ولكنها ليست بهذه البساطة- : يمكننا أن نفهم أمورًا كثيرة عندما نختبر الرحمة. يمكننا أن نفهم، على سبيل المثال، أن الآخر يعيش حالة يأس بلغت حدودها، وبأن ما يحصل له يتخطّى خطاياه أو ذنوبه؛ يمكننا أن نفهم أيضًا أن الآخر مثلنا وأنه من الممكن أن نكون مكانه؛ وبأنَّ الشرَّ كبير جدًّا ومُدمّر ولا يمكن حلّه فقط بواسطة العدالة... يمكننا أن نقنع أنفسنا في العمق أن هناك حاجة لرحمة لامتناهية كرحمة قلب المسيح لنعوّض عن كثرة الشرّ والألم الموجودة، كما نرى أنها موجودة في حياة الكائنات البشريّة... إن انخفضت الرحمة دون هذا المستوى، لا تنفع. هناك الكثير من الأمور التي يفهمها عقلنا فقط لدى رؤية شخص ما مرميٍّ على الطريق، حافي القدمين في صباح بارد، أو لدى رؤية الرب المُسمّر على الصليب من أجلي!

وفضلاً عن ذلك، فالرحمة تُقبل وتُعزّز أو تُرفض بحريّة. إن استسلم المرء لها، فالعمل سيجرُّ الآخر، أمّا إن عبر ومضى فالقلب سيبرد. إن الرحمة تجعلنا نختبر حرّيتنا وهناك يمكننا أن نختبر حريّة الله، الذي هو رحوم مع من هو رحيم (راجع تثنية 5، 10)، كما قال لموسى. فالرب يعبّر عن حريّته في رحمته. ونحن عن حريّتنا.

يمكننا أن نعيش لفترة طويلة "بدون" رحمة الرب. أي يمكننا أن نعيش بدون أن نتنبّه لها أو أن نطلبها بوضوح، إلى أن يدرك المرء أن "كلّ شيء هو رحمة" ويبكي بمرارة لأنه لم يستفد منها من قبل، منذ أن كان بأمسّ الحاجة لها.

إن البؤس الذي نتحدّث عنه هو البؤس الخلقي، غير القابل للتحويل، ذاك الذي من خلاله يعي المرء لذاته كشخص تصرّف، في وقت حازم من حياته، من تلقاء نفسه: قام بخيار وخياره كان سيئًا. هذا هو القعر الذي ينبغي أن نلمسه لكي نشعر بألم الخطايا ونتوب حقًّا. لأنه وفي إطارات أخرى، لا يمكن للمرء أن يشعر بهذه الحرّية ولا بأن الخطيئة تؤثّر سلبيًّا على حياته بأسرها، وبالتالي لا يختبر بؤسه وبهذا الشكل يفقد الرحمة التي تعمل فقط في حالة كهذه. فالمرء لا يذهب إلى الصيدلية ويقول: "رُحماك أعطني أسبرين". ولكنّه يسأل باسم الرحمة أن يعطوه مخدّرًا لشخص يعاني من آلام مرض نهائي. كلّ شيء أو لا شيء. نتعمّق بالشيء أو لا نفهمه البتة.

إن القلب الذي يجمعه الله ببؤسنا الخلقي هو قلب المسيح، ابنه الحبيب، والذي ينبض كقلب واحد مع قلب الآب والروح القدس. أذكر عندما كتب البابا بيوس الثاني عشر الرسالة العامة حول القلب الأقدس، أذكر أحدهم يقول: "لماذا رسالة عامة حول هذا الموضوع؟ إنه موضوع للراهبات ... ". إنه المركز، قلب يسوع، هو مركز الرحمة. ولعل الراهبات تفهم أفضل منا، لأنهن أمهات في الكنيسة، إنهن أيقونات الكنيسة والسيدة العذراء. لكن المركز هو قلب المسيح. قد تفيدنا قراءة "تستقون المياه" (Haurietis aquas) خلال هذا الأسبوع أو غدا ... "ولكنه من قبل المجمع!" - نعم، ولكنه يفيدنا! يمكننا قرأته، وسوف يفيدنا للغاية!- إنه قلب يختار الدرب الأقرب ويلتزم بها. وهذا من ميزات الرحمة بالتحديد، التي تعمل وتلمس وتشارك وتريد أن تدخل في علاقة مع الآخر، تتوجّه إلى ما هو شخصي من خلال ما هو شخصي أكثر، لا "تعتني بحالة ما" بل تلتزم بشخص وبجرحه. لننظر إلى لغتنا. كم من مرة، دون أن ندرك ذلك، نقول: "لدي حالة ...". توقف! قل بالأحرى: "لدي شخص ...". هذا اكليروسي للغاية: "لدي حالة..."، "لقد وجدت هذه الحالة ...". وغالبًا ما يحدث لي أنا أيضًا. هناك القليل من الاكليروسيه: تحجيم مظاهر محبة الله، وما يعطينا إياه الله، تحجيم الشخص إلى "حالة". وهكذا أضع مسافة بيننا ولا يمسني. وهكذا لا أوسّخ يديّ. وأقوم برعوية نظيفة، أنيقة، حيث لا أخاطر بشيء. وحتى عندما –لا تصابوا بصدمة!- ليس هناك أي إمكانية لخطيئة مخزية لي. الرحمة تتخطّى العدالة، وتجعل الآخر يدرك هذا الأمر ويشعر به؛ يبقى الواحد ملتزم بالآخر. وإذ تمنح الكرامة -هذا أمر حاسم، لا يمكن نسيانه: الرحمة تمنح الكرامة- الرحمةُ ترفع الشخصَ الذي ننحني إليه وتجعلنا متساويين، الرحيم والذي نال الرحمة. مثل المرأة الخاطئة في الإنجيل (لو 7، 36- 50)، التي غُفِرَ لها كثيرًا، لأنها أحبّت كثيرًا، وكانت قد خطأت كثيرًا.

لذلك يحتاج الآب إلى أن يحتفل، لكي يتمّ إصلاح كل شيء في مرّة واحدة، مُعيدًا إلى ابنه الكرامة التي فقدها. هذا الأمر يسمح بالنظر إلى المستقبل بأسلوب جديد. ليس أن الرحمة لا تعتبر الأذى الذي سبّبه الشرّ، موضوعيّ. ولكنها تُجرِّده من سلطته على المستقبل، -وهذه هي سلطة الرحمة- وتجرده من سلطته على الحياة التي تسير إلى الأمام. الرحمة هي موقف الحياة الحقيقيّ الذي يتعارض مع الموت، الذي هو ثمرة الخطيئة المرّة. إن الرحمة تعي هذا الأمر وليست ساذجة على الإطلاق. ليس أنها لا ترى الشر، لكنها تنظر إلى مدى قصر الحياة، وإلى كلّ الخير الذي لا يزال علينا القيام به. لذا ينبغي علينا أن نغفر بشكل كامل، لكي ينظر الآخر إلى الأمام ولا يضيّع الوقت في إدانة نفسه وتعذيبها والتحسّر على ما قد فقده. وفيما ينطلق المرء للعناية بالآخرين، يبدأ أيضًا فحص الضمير، وبقدر ما نساعد الآخرين نعوّض عن الشرّ الذي اقترفناه. الرحمة هي أساسًا مُفعمة بالرجاء. إنها أم الرجاء.

أن نسمح لحركة قلب الآب بأن تجذبنا وترسلنا يعني أن نُبقي على أنفسنا في تلك الوتيرة السليمة للكرامة الخجولة. أن نسمح لمحور قلبه بأن يجذبنا، كدم اتّسخ خلال ذهابه ليعطي الحياة للأعضاء الأكثر بعدًا، لكي يطهّرنا الرب ويغسل أرجلنا؛ وأن نسمح بأن يُرسِلنا ممتلئين بنفحة الروح القدس لنحمل الحياة إلى كل الأعضاء لاسيما تلك البعيدة والهشة والمجروحة.

يُخبر أحد الكهنة –وهذا تاريخي- عن شخص كان يعيش على الطريق وفي النهاية أصبح يعيش في مضافة. كان مُنغلقًا في مرارته ولم يكن يتفاعل مع الآخرين. لكنّهم تيقّنوا لاحقًا أنّه كان شخصًا مُثقّفًا. بعد وقت قصير، تمّ إدخال هذا الرجل إلى المستشفى بسبب مرض نهائيّ، وأخبر الكاهن أنّه وفيما كان هناك، يجتاحه الشعور بالفراغ وخيبة الأمل من الحياة، طلب منه المريض الذي كان في السرير المجاور له أن يعطيه المِبصقة، وأنه من ثم أفرغها. وأخبر أن هذا الطلب، الذي أتى من شخص محتاج بالفعل وكان في حالة أسوأ من حالته، فتح عينيه وقلبه على شعور إنسانيّ قويّ وعلى الرغبة بمساعدة الآخر، وعلى أن يسمح لله بمساعدته. واعترف. بهذه الطريقة، تصرّفُ رحمةٍ بسيط ربطه بالرحمة اللامتناهية، وتحلّى بالشجاعة ليساعد الآخر وسمح بعدها بأن تتم مساعدته: وتوفي بسلام بعد أن اعترف. هذا هو سر الرحمة.

هكذا أترككم مع مثل الأب الرحوم، بعد أن "وضعنا أنفسنا" في تلك اللحظة التي يشعر فيها الابن بأنه قذر وقد أُلبس من جديد، خاطئ أُعيدت إليه كرامته، خجِل من نفسه وفخور بأبيه. إن العلامة ليعرف المرء إن كان قد "وضع" نفسه جيّدًا هي الرغبة بأن يكون، من الآن فصاعدًا، رحيمًا مع الجميع. هنا تكمن النار التي جاء يسوع ليلقيها على الأرض، تلك النار التي تُشعل نيرانًا أخرى. إن لم تتّقد الشعلة فهذا يعني أن أحد القطبين لا يسمح بالاحتكاك. فإما الخجل المُفرط الذي لا يجرّد الأسلاك وبدلاً من أن يعترف المرء بانفتاح: "لقد فعلت كذا وكذا"، يستّر عن ذاته؛ وإما الكرامة المُفرطة التي تلمس الأشياء بواسطة القفازات.

مبالغات الرحمة

كلمة نهائية صغيرة حول مبالغات الرحمة.

إن المبالغة الوحيدة أمام رحمة الله المفرطة هي المبالغة في نيلها والرغبة بنقلها للآخرين. يُظهر لنا الإنجيل العديد من الأمثلة الجميلة لأشخاص بالغوا لكي ينالوها: المُخلّع الذي أدخله أصدقاؤه من السقف إلى وسط المكان حيث كان الرب يعظ -يبالغون-؛ الأبرص الذي ترك رفاقه التسعة وعاد يمجّد الله ويشكره بصوت عظيم وجثا عند أقدام الرب؛ الأعمى برطيما الذي تمكّن من إيقاف يسوع بصراخه –وتوصّل أيضًا أن يتغلّب على "جمارك الكهنة" كي يذهب إلى الرب-؛ المرأة النازفة التي، وفي خجلها، اجتهدت لتنال قربًا حميمًا من الرب الذي، وكما يقول الإنجيل، عندما لمست ثوبه أحس بقوّة خرجت منه...؛ جميعها أمثلة لذلك الاحتكاك الذي يشعل نارًا ويبعث القوّة: يبعث القوة الإيجابيّة للرحمة. هناك الخاطئة أيضًا التي شكّل التعبير المفرط لمحبّتها للرب –من خلال غسلها لقدميه بدموعها ومسحهما بشعرها– علامة له بأنّها قد نالت رحمة كبيرة ولذلك تعبّر عنها بذاك الشكل المبالغ. ولكن الرحمة تبالغ على الدوام! إن الأشخاص الأكثر بساطة والخطأة والمرضى والممسوسين... يُرفعون مباشرة من قبل الرب الذي ينقلهم من الإقصاء إلى ملء الإدماج ومن البعد إلى العيد. وهذا الأمر لا يمكن فهمه إلا في ضوء الرجاء، في ضوء رسولي وفي ضوء مَن نال رحمة ليمنحها بدوره أيضًا.

يمكننا أن نختتم بصلاة نشيد الرحمة، المزمور الخمسين للملك داود، والذي نتلوه في صلاة الصباح في أيام الجمعة. إنه نشيد "قلب تائب ومهان"، الذي لديه، في خطيئته، عظمة الاعتراف بالله الأمين، الذي هو أكبر من الخطيئة. الله هو أكبر من الخطيئة! وإذ نضع أنفسنا في اللحظة التي كان فيها الابن الضال ينتظر معاملة باردة -ولكن الآب يضعه وسط عيد-، يمكننا أن نتخيّله وهو يصلّي المزمور الخمسين، ونصلّيه في جوقين معه، نحن والابن الضال. يمكننا أن نسمعه يقول: "إِرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مَعاصِيَّ..." ونقول: "أنا (أيضًا) عالِمٌ بِمَعاصيَ، وخطيئَتي أمامي كُلَ حينٍ"، ونتابع بصوت واحد: "إليكَ وَحدَكَ (أيها الآب) إليكَ وَحدَكَ خطِئتُ".

ولنصلِّ إذًا انطلاقًا من تلك الوتيرة الحميمة التي تشعل الرحمة، تلك الوتيرة بين الخجل الذي يؤكّد: "أُحجُبْ وَجهَكَ عن خَطايايَ وامحُ جَميعَ آثامي"؛ وتلك الثقة القائلة: "نَقِّني بِالزُّوفى فأَطهُر إِغسِلْني فأَفوقَ الثَّلجَ بَياضًا". ثقة تصبح رسوليّة: "أردُدْ لي سُرورَ خَلاصِكَ فيُؤَيِّدَني روحٌ كَريم. أُعَلِّمُ العُصاةَ طرقَك فيَتوبُ إلَيكَ الخاطِئون".

 


Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana