Index   Back Top Print

[ AR  - BE  - DE  - EN  - ES  - FR  - HU  - IT  - LA  - NL  - PL  - PT  - RU  - ZH_CN  - ZH_TW ]

الرسالة العامة

المحبة في الحق

Caritas in Veritate

للحبر الأعظم البابا

بندكتس السادس عشر

إلى الأساقفة والكهنة والشمامسة

والمكرَّسين والمؤمنين العَلمانيين

ولجميع ذوي الإرادة الصالحة

عن التنمية البشرية المتكاملة

في المحبة وفي الحقّ

 

1. إنَّ المحبةَ في الحق، التي صارَ لها يسوعُ المسيحُ شاهداً بحياتِهِ الأرضيةِ، وفوق كل شيء بموتِه وقيامتِه، هي القوةُ الأساسيةُ التي تعطي دفعاً للتنميةِ الحقيقيةِ لكل شخصٍ وللبشريةِ جمعاء. المحبةُ هي قوةٌ غيرُ اعتيادية، تدفعُ الأشخاصَ للإلتزامِ بشجاعةٍ وسخاءٍ في العملِ لأجل العدلِ والسلامِ . هي قوةٌ ينبوعُها اللهُ نفسُهُ، هو المحبةُ الأبديةُ والحقُّ المُطلق. كلُّ واحدٍ يجدُ خيرَه الحقيقيَّ بالخضوعِ للخطةِ التي رسمَها الله له، ليحققَها بملئِها: ففي خطتِهِ يجدُ المرءُ حقيقةَ ذاتِهِ، وبالخضوعِ لهذه الحقيقةِ يصبحُ حراً (راجع يو 8: 22). إن الدفاعَ عن الحقِّ وعرضَهُ بتواضعٍ واقتناعٍ والشهادةَ له في الحياةِ، لأشكالٌ متطلّبةٌ من التعبيرِ عن المحبة، أشكالٌ لا يمكن الإستغناءُ عنها أبداً. فالمحبةُ «تفرحُ بالحقِّ» (1 كو 13: 6). جميعُ الناسِ يشعرون بدافعٍ باطني يحثُّهم على المحبةِ بأصالةٍ: فالمحبةُ والحقُ لا يمكنُهما أبداً أن يهجرا الإنسان تماماً، لأنهما الدعوةُ التي وضعَها الله في قلبِه وفكرِه. أما يسوعُ المسيحُ فهو مَن يُطهِّرُ ويُحرِّرُ من فقرِنا البشري مسيرةَ بحثِنا عن المحبةِ والحق، ويُظهِرُ لنا بملئِها، مبادرةَ المحبةِ التي اتخذَها الله تجاهَنا وخطةَ الحياةِ الحقيقية التي أعدّها في سبيلِنا. في المسيح، تتخذُ المحبةُ في الحقيقةِ وجهَ شخصٍ، وتغدو دعوةً موجهةً لنا لنحبَّ إخوتِنا في حقيقةِ خطّتِه. فهو الحقيقةُ نفسُها (راجع يو 14: 6).

2. المحبةُ هي الركنُ الأساسي لعقيدةِ الكنيسةِ الإجتماعيةِ. فكلُّ ما ورد في هذه العقيدةِ من مسؤولياتٍ وإلتزاماتٍ نجدُها مستقاةً من المحبة، التي هي – حسب تعليم يسوع – خلاصةُ الشريعةِ بأكملها (راجع متى 22: 36-40). المحبةُ هي التي تمنحُ للعلاقةِ مع اللهِ والقريبِ جوهراً حقيقياً؛ هي ليست مبدأَ العلاقاتِ المُصغَّرة وحسب: أي علاقاتِ الصداقةِ والأسرةِ والجماعاتِ الصغيرةِ، بل هي أيضاً مبدأُ العلاقاتِ الموَسَّعة: أي العلاقاتِ الإجتماعيةِ والإقتصاديةِ والسياسيةِ. فبالنسبة للكنيسةِ – إذ تتعلمُ من الإنجيلِ – المحبةُ هي كلُّ شيء لأنه، كما يُعلم القديس يوحنا (راجع 1 يو 4: 8، 16) وكما ذكَّرتُ في رسالتي العامة الأولى «الله محبة»: كلُّ شيء يصدُرُ عن محبةِ اللهِ ومنها يتخذ شكلاً وإليها يصبو. المحبةُ هي أعظمُ هبةٍ منحَها اللهُ للبشرِ، هي وعدُهُ ورجاؤنا.

3. لعلاقتِها الوثيقةِ بالحقِ، علينا أن نعترفَ بأن المحبةَ هي تعبيرٌ أصيلٌ عن الإنسانيةِ وعنصرٌ ذو أهميةٍ أساسيةٍ في العلاقاتِ بين البشرِ، دون استثناءِ العلاقاتِ العامةِ. بالحقِ وحدَه تسطَعُ المحبةُ وبه يُمكنها أن تُعاش. الحق نورٌ يمنحُ المحبةَ معنى وقيمةً. هذا النورُ هو في الوقتِ نفسِه نورُ العقلِ والإيمانِ، به يصلُ الذكاءُ إلى حقِّ المحبةِ الطبيعي والفَوطبيعي: ويتلمَّسُ فيه معنى العطاءِ والقبولِ والتشاركِ. بدون الحقِ تتحولُ المحبةُ إلى مجردِ نزعةٍ عاطفيةٍ. ويغدو الحبُّ قوقعةًفارغةً يُسعى إلى ملئها بشكلٍ اعتباطي. هذا هو خطرُ المحبةِ المحتومِ في ثقافةٍ تفتقدُ إلى الحقِ. فهي فريسةُ إنفعالاتِ الأشخاصِ وآرائِهم المتغيرة، وكلمةٌ قد استُغِلَّت وحُرِّفَت، حتى صارت تعني ما هو نقيضُها. الحقُّ هو الذي يُحرِّرُ المحبةَ من أسرِ النزعاتِ العاطفية التي تحرمُها المضمونَ العلائقي والإجتماعي، وهو يُحرّرُها أيضاً من نزعتِها الإيمانيةِ المُعارضةِ للعقلِ، التي تحرمُها البُعدَ الإنساني والشمولي. من خلال الحقِ تعكسُ المحبةُ البُعدَ الشخصيّ والعامَ للإيمانِ بإله الكتابِ المقدسِ، الذي هو في آنٍ واحد «أغابي» و«لوغوس»: محبةٌ وحقٌ، حبٌّ وكلمة.

4. ولكونِها مليئةً بالحقَ، يمكنُ للمحبةِ أن تكونَ مفهومةً من قِبل الإنسانِ بكلِّ غنى قيمِها، ويمكنُها أن تُشارَك وتُعطى. فالحقُ هو «كلمةٌ» تَخلقُ «الحوار»، وبالتالي فهو يخلقُ التواصلَ والتشارُكَ. وإذ يُخرجُ الحقُّ الناسَ من آرائِهم وأحاسيسِهم الشخصية، يسمحُ لهم بالذهابِ إلى ما هو أبعدُ من التحديداتِ الثقافيةِ والتاريخيةِ، حيث يمكنُهم أن يلتقوا في تقديرِ قيمةِ الأشياءِ وجوهرِها. فالحقُ يفتحُ العقولَ ويوحّدُها في منطقِ الحب: هذا هو الإعلانُ المسيحيُ للمحبةِ والشهادةُ لها. إن عيشَ المحبةِ في الحقِّ، ضمنَ السياقِ التاريخي والإجتماعي الراهنِ، الذي انتشرَ فيه الميلُ لإعتبارِ الحقيقةِ أمراً نسبياً، يجعلُنا نفهمُ كيف أن الخضوعَ لقيمِ المسيحيةِ ليسَ أمراً مفيداً وحسب، بل هو ضروريٌّ لبناءِ مجتمعٍ صالحٍ وللتنميةِ الإنسانيةِ المتكاملة. لو كانت هناكَ مسيحيةُ محبةٍ بدون الحقِ، لكان من السهلِ خلطُها مع المشاعرِ الصالحةِ التي بالرغم من كونِها مفيدةً في التعايشِ الإجتماعي إلا أنها تبقى هامشيةً. بهذا الشكلِ لن يبقى لله مكانٌ حقيقيٌ في قلبِ العالمِ. بدون الحقِ تُحتَجَزُ المحبةُ في المجالِ الضيقِ للعلاقاتِ الشخصية. وتغدو مستبعدةً عن مشاريعِ وعملياتِ التنميةِ الإنسانيةِ المتكاملة، وعن الحوارِ بين العلومِ والتطبيقات.

5. المحبّةُ هي حبٌّ يُقبَلُ ويُمنح. هي «نعمة» (خاريس في اللغة اليونانية). ينبوعُها هو المحبةُ الفيّاضةُ التي يخصُّ بها الآبُ الابنَ في الروحِ القدسِ. هو حبُّ ينحدرُ من الابنِ نحونا. هو حبُّ خالقٌ، به نوجدُ؛ وحبٌّ فادي به خُلقنا من جديد. حبٌّ قد كُشفَ وتحقّقَ بفضلِ المسيحِ (راجع يو 13: 1) و«قد سُكِبَ في قلوبِنا بالروحِ القدسِ» (رو 5: 5). إنَّ البشرَ الذين هم موضعُ محبةِ اللهِ قد جُعلوا فاعلينَ للمحبةِ، ومدعوين ليكونوا هم أنفسُهم أدواتٍ للنعمةِ، كي ينشروا محبةَ الله ويُحيكوا شبكةَ محبة.

أمّا عقيدةُ الكنيسةِ الإجتماعيةِ فتتجاوبُ مع ديناميكيةِ المحبةِ هذه، المقبولةِ والممنوحةِ. إذ أنها «محبةٌ في الحقِ فيما يخصُ الأمورَ الإجتماعية»: إعلانُ حقِّ محبةِ المسيحِ في المجتمع. إن عقيدةً كهذهِ لهي خدمةٌ للمحبة، لكنها خدمةٌ في الحق. فالحقُّ يحفظُ قوة المحبةِ المُحرِّرةِ ويعبِّرُ عنها في أحداثِ التاريخِ المتجددةِ بإستمرار. إنه في الوقتِ نفسِه حقُّ الإيمانِ والعقل، مع الحفاظِ على التمييزِ والتناغُمِ بينَ مجالي المعرفةِ هذين. إن التطورَ والرخاءَ الإجتماعي والحلولَ الناجعةَ للمشاكلِ الجسيمةِ الإجتماعيةِ/الإقتصاديةِ التي تعاني منها البشريةُ، هي بحاجةٍ إلى هذه الحقيقة. إلا أنها بحاجةٍ أكثرَ لأن تحبَّ هذه الحقيقةَ وتشهَدَ لها. بدونِ الحق وبدونِ الثقةِ وحبِّ الحقيقةِ لا يمكن أن يوجدَ ضميرٌ ومسؤوليةٌ اجتماعية، لأن النشاطَ الإجتماعي يقعُ ألعوبةً في يدِ المصالحِ الخاصة ومنطقِ القوة، مما يُشرذمُ المجتمعَ، خصوصاً في مجتمعٍ يسيرُ نحو العولمةِ، وفي أوقاتٍ صعبةٍ كأوقاتِنا الراهنة.

6. «المحبةُ في الحق» هو المحورُ الذي تدورُ حولَهُ عقيدةُ الكنيسةِ الإجتماعية، وهو مبدأٌ يُترجَمُ عملاً حسبَ معاييرَ توجّهُ الفعلَ الأخلاقي. أودُّ هنا أن أذكِّرَ بإثنين منها بشكلٍ خاص، يُمليهما واقعُ الإجتهاد في سبيلِ التنميةِ في مجتمعٍ يسيرُ نحو العولمةِ، وهما: العدلُ والخيرُ العام.

قبلَ كلِّ شيء العدلُ. حيث تتواجدُ المجتمعاتُ فهناك التشريعُ [أْ]: فكلُّ مجتمعٍ يعملُ على وضعِ نظامٍ عدليٍّ خاصٍّ به. المحبةُ تتجاوزُ العدلَ، لأن الحبَّ يعني العطاءَ، يعني أن أهبَ "مما هو لي" للآخر؛ لكن المحبةَ لا تنفصلُ أبداً عن العدلِ، الذي يحثُّ على إعطاءِِ الآخرِ ما هو له، أي ما يحقُّ لهُ بفضلِ وجودِهِ وعملِهِ. لا يمكنني أن أهَبَ الآخرَ مما هو لي دونَ أن أكونَ قد أوفيْته أولاً حقَّهُ العادل. على مَن يعامِلُ الآخرينَ بمحبةٍ أن يكونَ أولاً عادلاً تجاههم. إن العدلَ ليسَ غريباً عن المحبةِ، وهو ليسَ بديلاً عنها أو موازياً لها، لا بل إنه «لا ينفصلُ عنها» (1)، ويتعلّقُ بها جوهرياً. العدلُ هو الطريقُ الأول للمحبةِ، أو كما يقول البابا بولس السادس هو «أدنى مقياسٍ» لها (2)، وهو جزءٌ لا يتجزّأ من المحبةِ «بالعملِ والحق» (1 يو 3: 18) التي يدعونا إليها يوحنا الرسول. من ناحيةٍ أولى تتطلَّبُ المحبةُ عدلاً: أي الاعترافُ بالحقوقِ المشروعةِ للأفرادِ والشعوبِ واحترامُها. فالعدلُ يعملُ على بناءِِ "مدينةِ الإنسان" بالحقِ والعدل. من ناحيةٍ أخرى تتجاوزُ المحبةُ العدلَ وتكمّلهُ حسبَ منطقِ العطاءِِ والغفرانِ (3). فمدينةُ الإنسانِ لا تنتج بمجرّدِ وجودِ علاقاتٍ تحكُمها الحقوقُ والواجبات، بل هي على الأكثرِ وقبلَ كلِّ شيء نتاجُ علاقاتٍ مجانيةٍ، علاقاتِ غفرانٍ وتشارُكية. تُظهرُ المحبةَ دائماً، حتى في العلاقاتِ البشرية، محبةَ الله؛ وهي تضفي على كلِّ اجتهادٍ لتحقيقِ العدلِ في العالمِ قيمةً إلهيةً وخلاصية.

7. ومن ثم، علينا أن نوليَ الخيرَ العام اهتماماً كبيراً. فمحبةُ الآخر تعني إرادةَ الخيرِ له والعملَ بفعاليةٍ على تحقيقه. وإلى جانب الخيرِ الفردي هناكَ الخيرُ المتعلّقُ بحياةِ الأشخاصِ في المجتمعِ، وهو ما ندعوهُ بالخيرِ العام. إنهُ خيرُنا "نحنُ جميعاً"، أفرادٍ وعائلاتٍ ومجموعاتٍ وسيطةٍ تتحدُ في جماعاتٍ اجتماعية (4). ليس الخيرُ العامُ هدفاً بحدِّ ذاتِهِ، لكنه خيرٌ لأجلِ الأشخاصِ الذين يُكوّنونَ الجماعاتِ في المجتمعِ والتي بها فقط يستطيعونَ تحقيقَ خيرِهم بواقعيّةٍ وفعّالية. إن إرادةَ الخيرِ العام والعملَ لأجله لمَطلبُ عدلٍ ومحبة. فالإجتهادُ في سبيلِ الخيرِ العامِ يعني في الوقتِ نفسِه الاهتمامَ بمجموعةِ المؤسساتِ واستعمالَها، أعني تلك المؤسساتِ التي تُشكّلُ بنيةَ التعايشِ الاجتماعيّ تشريعياً ومدنياً وسياسياً وثقافياً، في سبيل بناءِ "المدينة" [ب]. هذه هي طريقُ المحبةِ المؤسساتية – والتي نستطيعُ أن ندعوها أيضاً بالسياسيةِ – وهي ليست أقلَ شأناً وتأثيراً من المحبةِ التي تلتقي بالقريبِ مباشرةً، خارج حدودِ الوساطاتِ المؤسساتية في "المدينة". إنّ الإجتهادَ في سبيلِ الخيرِ العام إذا ما أحيتهُ المحبةُ أضفت عليهِ قيمةً أسمى من كونِه مجرّدَ إلتزامٍ دُنيوي وسياسي. فهو شأنُه شأنُ كلِّ إجتهادٍ في سبيلِ العدل، أي أنهُ يُشكِّلُ شهادةً للمحبةِ الإلهيةِ التي إذ تعملُ في الزمنِ الحاضر تُهيِّئُ زمنَ الأبدية. عندما يستلهمُ تصرُّفُ الإنسانِ على الأرضِ المحبةَ ويُؤسَّسُ عليها، يُساهِمُ في بناءِ مدينةِ اللهِ الشاملة، التي يسيرُ نحوها مجملُ تاريخِ الأسرةِ البشرية. وفي مجتمعٍ يسيرُ نحوَ العولمةِ لا يُمكنُ للخيرِ العام وللإجتهادِ في سبيلهِ ألا يَشملا الأسرةَ البشريةَ جمعاء، أي جماعةَ الشعوبِ والأممِ (5)، مما يوحِّدُ مدينةَ الإنسان ويمنحُها السلامَ، ويجعلُ منها بشكلٍ من الأشكالِ استباقاً يُصوِّرُ مدينةَ اللهِ الخاليةَ من الحواجز.

8. إذ نشرَ عام 1967 رسالتَهُ العامة ترقي الشعوب، أنارَ سلفي البابا بولس السادس موضوعَ تنميةِ الشعوب بشعاعِ الحقِّ ونورِ محبةِ المسيحِ العذبة. فقد أكَّدَ أن إعلانَ المسيحِ هو العاملُ الأولُ والأساسيُّ في التنمية (6) وقد تركَ لنا مهمةَ السيرِ على دربِ التنميةِ بكلِّ قلوبِنا وعقولِنا (7)، أي بلهيبِ المحبةِ وحكمةِ الحقيقة. إنها الحقيقةُ الأصليةُ النابعةُ من محبةِ اللهِ، والموهوبةُ لنا كنعمةٍ تفتحُ حياتَنا على العطيّةِ وتجعلُ الرجاءَ في «تنميةٍ تشملُ الإنسانَ بكاملِهِ وتصلُ جميعَ البشر» (8) أمراً ممكناً، وهذا بتحوُّلٍ من «أوضاعٍ أقلَّ إنسانية إلى أوضاعٍ أكثرَ إنسانية» (9)، نحققُهُ بالتغلُّبِ على المصاعبِ التي لا بدَّ أن تعترضَ الطريق.

بعد أكثرَ من أربعينَ سنةٍ مضتْ على نشرِ الرسالةِ العامةِ المذكورة، أودُّ أن أُكرِّمَ ذكرَ عظيمِ الأحبارِ البابا بولس السادس، آخذاً تعاليمَهُ عن التنميةِ البشريةِ المتكاملة وسائراً على الدربِ التي رسمَتْها، في سبيلِ تحقيقِها في وقتِنا الحاضر. لقد بدأت عمليةُ قراءةِ الرسالةِ السابقِ ذكرُها على ضوءِ الحاضرِ معَ الرسالةِ العامةِ الاهتمامُ بالشأنِ الاجتماعي التي أرادها البابا يوحنا بولس الثاني تعليقاً على ترقي الشعوب بمناسبةِ مرورِ عشرين عاماً آنذاك على نشرِها. حتى ذاك الوقت لم تكنْ تصدرُ مثلُ هذه التذكارات إلا فيما يتعلقُ بالرسالةِ العامةِ الأمورُ الحديثة. بعد مرورِ عشرين عاماً، أودُّ أن أعبرَ عن قناعتي بأن ترقي الشعوبِ تستحقُّ أن تُعتَبرَ «الأمور الحديثة لحقبتنا المُعاصرة»، لأنها تنيرُ دربَ البشريةِ السائرةِ نحو الوحدة.

9. تُشكّلُ المحبةُ في الحق تحدياً كبيراً للكنيسةِ في عالمٍ تغزوه العولمةُ تدريجياً. إن الخطرَ المُحدقَ بزمنِنا الحاضر هو ألا يُقابلَ واقعُ الارتباط المتبادلِ بين البشرِ والشعوبِ تفاعلاَ أخلاقيّاً للضمائرِ والعقول، منه نستطيعُ أن نحققَ تنميةً إنسانيةً بكل معنى الكلمة. فلا يمكنُ تحقيقُ أهدافِ التنميةِ الإنسانيةِ والمؤنسِنَةِ إلا بواسطةِ المحبةِ التي تستنيرُ بالعقلِ والإيمان. إن اقتسامَ الخيراتِ ومصادرِها، الذي بفضلهِ تتحقّقُ التنميةُ الأصيلةُ، لا يضمنُهُ التقدّمُ التقنيُّ وحدَهُ ولا علاقاتُ التعايشِ المشتركِ وحسب، بل إنه يتأتّى من القدرةِ على المحبةِ التي تغلبُ الشرَّ بالخيرِ (راجع رو 12: 21) وتفتحُ بابَ تشارُكِ الضمائرِ والحريّات.

لا تملكُ الكنيسةُ حلولاً تقنيةً لتقترحَها (10) وهي لا تنوي نهائياً «التدخلَ في سياسةِ الدول» (11). إلا أن لديها رسالةَ حقٍّ عليها القيامُ بها في كلِّ الأزمنةِ والظروف، لأجلِ تحقيقِ مجتمعٍ يحترمُ الإنسانَ وكرامتَهُ ودعوتَه. دونَ الحقِّ تهوي نظرةُ الإنسانِ للحياةِ إلى درجةِ التجريبيةِ والتشكيكيةِ، وهي نظرةٌ عاجزةٌ عن التسامي فوق جانبِ الحياةِ العمليّ، لأنها لا تهتمُّ بالقيمِ – وأحياناً لا تهتمُّ حتى بمعنى الأشياء – التي بها نحكمُ على الجوانبِ العمليةِ ونوجّهُها. إن الأمانةَ تجاهَ الإنسانِ تتطلّبُ الأمانةَ تجاهَ الحقِّ، لأنه وحدَه ضامنُ الحريةِ (راجع يو 8: 32) وضامنُ إمكانيةِ التنميةِ الإنسانيةِ المتكاملة. لهذا تبحث الكنيسةُ عن الحقِّ وتُعلنُهُ دون كللٍ وتعترفُ بوجوده حيثُ يظهر. وهكذا فإن رسالةَ الحقِّ هذه أمرٌ لا يمكن للكنيسةِ أن تتخلى عنه. أمّا عقيدتُها الإجتماعية فهي أحدُ عناصرِ البشارة: إنها خدمةٌ للحقِّ الذي يُحرّر. وهي إذ تبقى منفتحةً على الحق، من أي جهةٍ جاءَ، تقبَلُهُ وتجمعُ أشلاءَهُ في وحدةٍ واحدة وتوصلُهُ للآخرينَ من خلالِ حياةٍ متجدّدةٍ لمجتمعِ الناسِ والشعوب (12).

 

الفصل الأول

غاية الرسالة العامة ترقي الشعوب

 

10. تحثُّنا إعادةُ قراءتِنا لـ ترقي الشعوب، على بُعدِ أربعين سنةً من نشرِها على البقاء أُمناءَ لرسالةِ المحبةِ والحقِ التي تضمّنْتها، وذلك بالنظرِ إليها بشكلٍ خاصٍ في سياقِ تعليمِ بولس السادس، وبشكلٍ أعمَّ في تقليدِ عقيدةِ الكنيسةِ الإجتماعيةِ. ومن ثم علينا أن نعيدَ النظرَ في الأشكالِ المتعددةِ التي تتجسدُ بها اليومَ، على خلافِ آنذاك، مشكلةُ التنمية. فوجهةُ النظرِ الصحيحةِ هي تقليدُ الإيمانِ الرسولي (13)، فهوَ ميراثٌ قديمٌ وجديد، بدونِه تتحولُ "ترقي الشعوب" لمجردِ وثيقةٍ دون جذورٍ، وتغدو مسألةُ التنميةِ مجردَ معلوماتٍ سوسيولوجية.

11. إن نشرَ "ترقي الشعوب" قد جاء فوراً بعدَ ختامِ المجمعِ المسكوني الفاتيكاني الثاني. وفي فصولِها الأولى تشيرُ هذه الرسالةُ العامةُ إلى عمقِ ارتباطِها بالمجمع (14). بعد عشرين سنة قام بدورِه البابا يوحنا بولس الثاني، من خلال رسالتِه العامة "الإهتمام بالشأن الاجتماعي"، بالتأكيدِ على العلاقةِ الخصبةِ القائمةِ بين تلك الرسالة (ترقي الشعوب) والمجمع، وبشكلٍ خاص مع الدستورِ الرعوي فرح ورجاء (15). أنا أيضاً أود أن أُذكِّرَ بأهمية المجمعِ الفاتيكاني الثاني بالنسبة لرسالةِ بولس السادس العامة لا بل لكلِّ تعليمِ الكنيسةِ الإجتماعي الذي أصدرَه الأحبارُ العِظام. لقد قام المجمعُ بالتعمُّق في الحقائق التي ارتبطتْ على الدوام بالإيمان، وبكلامٍ آخر أنَّ الكنيسةَ لكونها خادمةً لله هي أيضاً في خدمةِ العالمِ بالمحبةِ والحق. من هذا المُنطلق قام بولس السادس بإبلاغنا حقيقتَينِ عظيمتَين. الأولى هي أن مُجمَلَ الكنيسةِ في مُجمَلِ كيانِها ونشاطِها، عندما تُعلنُ المحبةَ وتحتفلُ وتعملُ بها هي تسعى لدعمِ تنميةِ الإنسانِ المتكاملة. فللكنيسةِ دورٌ في المجتمعِ لا ينحصرُ في نشاطِها الإحسانيّ والتربويّ، بل يُظهِرُ كاملَ طاقاته لخدمةِ ودعمِ الإنسانِ والأخوَّةِ الشاملةِ، في حالِ وجودها ضمنَ جوٍّ من الحرية. لكن في حالاتٍ عديدةٍ نجدُ أن حريَّتها هذه مقيّدةٌ بموانعَ وإضطهاداتٍ أو محدودةٌ عندما يُحصَرُ نشاطُ الكنيسةِ في المجتمعِ في هامشِ العملِ الإحسانيّ. أما الحقيقةُ الثانية فهي أن تنميةَ الإنسانِ الأصيلةِ تعني تنميةَ الشخصِ الشاملة جميعَ أبعاده (16). بدونِ أفقِ الحياةِ الأبديةِ يبقى التطورُ البشريُّ في هذا العالمِ محروماً من الرجاء. فإذا ما سُجِنَ في حدودِ التاريخِ يبقى معرَّضاً لخطرِ التحوُّلِ إلى مجرَّدِ ازديادٍ في الأملاكِ؛ وهكذا تخسرُ البشريةُ شجاعةَ التطلُّعِ إلى الخيراتِ الأسمى، إلى المبادراتِ الكبيرةِ والمجانيةِ التي تحييها المحبةُ الشاملة. لا يُمكنُ للإنسانِ أن يُحققَ التنميةَ بفضلِ قواهُ وحدَها، ولا يمكنُ للتنميةِ أن تأتيَه فقط مما هو خارجٌ عنه. لقد سادَ الإعتقادُ عبرَ التاريخِ أن إقامةَ المؤسسات يكفي ليضمنَ للبشريةِ حقوقَها في التنمية. لقد عمَّت وللأسف مشاعرُ ثقةٍ مبالغٌ بها في مثلِ هذه المؤسسات، وكأنها قادرةٌ على تحقيقِِ الهدفِ المنشودِ بطريقةٍ آلية. في الواقع، المؤسساتُ وحدَها لا تكفي لأن التنميةَ البشريةَ المتكاملة هي قبلَ كلِّ شيءٍ دعوةٌ وبالتالي فهي تتطلَّبُ نظرةً متساميةً للشخصِ البشري المُحتاجِ لله: بدون الله نجدُ التنميةَ منعدمةً أو يُعهدُ بها فقط للإنسانِ الذي يقعُ في فخِّ "الخلاص الذاتي" ويفضي إلى دعمِ تنميةٍ لاإنسانية. من جهةٍ أخرى، وحدَهُ اللقاءُ باللهِ يسمحُ لنا ألا نرى في الآخرِ "مجرَّدَ آخر" (17)، بل أن نتعرَّف فيهِ على الصورةِ الإلهيةِ، وبهذا نصلُ لإكتشافهِ في حقيقتِهِ فتنمو فينا المحبةُ تجاهَه و التي تغدو "اعتناءً بالآخرِ ولأجل الآخر" (18).

12. لا يُعتَبَرُ الرابطُ بين "ترقي الشعوب" و"المجمع الفاتيكاني الثاني" إنفصالاً بين عقيدةِ بولس السادس الإجتماعية وعقيدةِ أسلافهِ الأحبارِ، وهذا لأن المجمع يُشكِّلُ تعمُّقاً في هذه العقيدةِ ضمن استمراريةِ حياةِ الكنيسة (19). بهذا المعنى، لا تُساهمُ في إيضاحِ الأمورِ بعضُ التقسيمات النظرية لعقيدة الكنيسة الإجتماعية، وذلك لأنها تُطبِّقُ على تعليمِ الأحبارِ الإجتماعي مقولاتٍ غريبةً عنه. لا وجودَ لنوعينِ من العقيدةِ الإجتماعية، ما قبلَ وما بعدَ مجمعية، متباينَتَين فيما بينهما، بل تعليمٌ وحيدٌ، متناغمٍ ومتجدِّدٌ في الوقت نفسه (20). لا ريب في التأكيدِ على خصوصيةِ رسالةٍ عامةٍ بالنسبةِ لأخرى، أو تعليمٍ حَبْرٍ بالنسبةِ لآخر، شرطَ ألا يُنسى تناغمُ العقيدةِ بمجملِها (21). التناغمُ لا يعني الإنغلاقَ في نمطِ تفكيرٍ مُعيَّن بقدرِ ما هو أمانةٌ ديناميكيةٌ للنورِ الذي اقتبلْناه. إن عقيدةَ الكنيسةِ الإجتماعيةِ تُنيرُ بنورٍ لا يتغيَّر المشاكلَ الجديدةَ التي تظهر (22). هذا ما يُحافظُ على استمراريةِ وتاريخيّةِ هذا «التراث» العقائدي (23) الذي يُكوِّنُ جزءاً من تقليدِ الكنيسةِ الدائمِ الحيويةِ بفضلِ سماتِهِ الخاصة (24). إن عقيدةَ الكنيسةِ الإجتماعية مبنيةٌ على الأساسِ المتناقَلِ مِن الرسلِ لآباءِ الكنيسة، الذي اقتبلهُ وتعمَّقَ فيهِ كبارُ المعلّمينَ المسيحيين. وتستندُ هذه العقيدةُ في نهايةِ المطاف إلى الإنسانِ الجديد «آدم الأخير الذي صارَ روحاً مُحيياً» (1 كو 15: 45) الذي هو مبدأُ المحبة التي «لا تسقطُ أبداً» (1 كو 13: 8). قد شهدَ لها القديسونَ وجميعُ من وهبوا حياتهم لأجلِ المسيحِ المُخلِّصِ في مجالِ العدلِ والسلام. فيها تجدُ المهمةُ النبويّةُ للأحبارِ العِظامِ، أي قيادتُهم الرسولية لكنيسةِ المسيحِ لتُميِّزَ متطلّبات التبشير الجديدة، تعبيراً لها. لهذه الأسباب إذا ما قرأنا "ترقي الشعوب" في سياقِ التقليدِ الكبيرِ الجاري في الكنيسة سنجدُ أنها ما زالت قادرةً على التحدُّث إلينا اليومَ أيضاً.

13. عدا عن ارتباطِها المهمِ بمُجمَلِ عقيدةِ الكنيسةِ الإجتماعية، ترتبطُ "ترقي الشعوب" ارتباطاً وثيقاً بمُجمَل تعليمِ بولس السادس، وبشكلٍ خاصٍ بتعليمِه الإجتماعي. فقد كانَ هذا، دون شك، ذا أهميةٍ بالغة: لقد شدَّدَ على حيويةِ الإنجيلِ في بناءِِ مجتمعٍ الحريةِ والعدالة، وهذا من منظورٍ مثاليٍّ وتاريخيّ يتطلّعُ لحضارةٍ تحييها المحبةُ. لقد أدركَ بولس السادس كيف أن المسألةَ الإجتماعيةَ قد غدتْ عالميةً (25) ولاحظَ وجودَ نقاطٍ مشتركة بينَ الدافع نحو توحيدِ البشرية والمثالِ المسيحي المُنادي بعائلةٍ واحدةٍ تجمعُ شملَ الشعوب وتجعلُهم متضامنينَ بالأخوَّةِ. لقد أشارَ إلى التنميةِ، الإنسانيةِ والمسيحية، كجوهرِ الرسالةِ الإجتماعيةِ المسيحية واقترحَ المحبةَ المسيحيةَ كقوةٍ أساسيةٍ لخدمةِ التنمية. لقد واجهَ بولسُ السادس بحزمٍ، تدفعهُ الرغبةُ في أن يُظهِرَ ملءَ محبةِ المسيحِ لإنسانِ اليوم، مسائلَ أخلاقيةً دون الإستسلامِ لنقاط الضعفِ في الثقافةِ المنتشرةِ آنذاك.

14. في رسالتهِ الرسوليةِ "الذكرى الثمانون" التي نُشرَتْ عام 1971، عالجَ بولسُ السادسُ معنى السياسةِ وتطرَّقَ إلى خطرِ الرؤى اللاواقعية والأيديولوجية التي كانت تضفي أحكامَها المُسبقةَ على جانبيها الأخلاقي والإنسانيِّ. إنها لمواضيعٌ ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالتنميةِ. للأسف فإن الإيديولوجياتِ السلبيةَ تزدهرُ بإستمرارٍ. لقد سبقَ وحذَّرَ بولسُ السادس من الأيديولوجيةِ التكنوقراطيةِ المتجذِّرةِ بشكلٍ خاص في أيامِنا (26)، إذ أدركَ خطورةَ توكيلِ التقنيةِ وحدَها مهمةَ مسيرةِ التنميةِ بكاملها، لأنه بهذا تبقى التنميةُ دون هدفٍ. إن التقنيةَ، بحدِّ ذاتها، ذاتُ وجهين. فإن كان هناك، من جهةٍ، مَن يميلُ اليومَ لتوكيلِها كاملَ مسيرةِ التنميةِ، تظهرُ من جهةٍ أخرى أيديولوجيات تنكرُ فائدتها في التنميةِ إنكاراً كاملاً، وتعتبرُها أمراً ضدَّ البشريةِ أصلاً لا يُنتجُ سوى التدهور. هكذا لا ينتهون لإدانةِ الطرقِ المعوجّةِ والظالمةِ التي يستخدمُها الناسُ أحياناً في توجيهِ التنميةِ وحسب، بل يُدينونَ الإكتشافاتِ العمليةَ نفسَها، التي إذا ما استُخدِمَت بشكلٍ صالحٍ تُشكِّلُ فرصةَ تنميةٍ للجميع. إن فكرةَ عالمٍ دونَ تنمية تُعبِّرُ عن عدمَ الثقةِ بالإنسان وبالله. فإحتقارُ القدراتِ البشريةِ في التحكُّمِ بتحريفِ التنميةِ أو تجاهلُ كونِ الإنسانِ مندفعاً بُنيوياً نحو «إزديادٍ في الكيان» لخطأٌ جسيم. إن كلا الموقفين: الأيديولوجي الذي يَعتبرُ التطورَ التقنيَّ قيمةً مُطلَقةً أو ذاك الذي يتلمَّسُ حلمَ بشريةٍ تعودُ إلى حالتِها الطبيعيةِ الأصليّةِ، هما شكلانِ متعاكسانِ يهدفانِ لفصلِ التطورِ عن قيمتِهِ الأخلاقية، وهما يتحاشان بالتالي تحمّلَ المسؤوليةِ تجاهه.

15. هناك وثيقتان لبولس السادس لا تتعلّقان مباشرة بالعقيدةِ الإجتماعية – الرسالة العامة "الحياة البشرية" (25 تموز 1968) والإرشاد الرسولي "إعلان الإنجيل" (8 كانون الأول 1975) – وهما شديدتا الأهميةِ لتحديدِ ملءِ المعنى الإنسانيّ للتنميةِ التي تقترحُها الكنيسة. لذا كان من المناسب النظرُ إلى ارتباطِ هذين النصين بـ "ترقّي الشعوب".

تُسطِّرُ الرسالةُ العامةُ "الحياة البشرية" معنى الجنسِ من حيث أنه اتحادٌ وتناسُلٌ، واضعةً في أساسِ المجتمع الزوجَين، الرجلَ والمرأةَ، الذين يقبلان بعضُهما البعضَ قبولاً متبادلاً مع محافظتِهما على التميُّزِ والتكامل؛ فعلى الزوجَين إذاً أن يكونا منفتحَين على الحياة (27). هنا لا يتعلّق الأمرُ بأخلاقياتِ فرديّةٍ محضة: فـ "الحياة البشرية" تشيرُ إلى الروابطِ القويةِ القائمةِ بين أخلاقياتِ الحياةِ والأخلاقياتِ الإجتماعيةِ، مفتتحةً بذلك في صلبِ التعليمِ الكنسيّ موضوعاً راحَ يتضحُ شيئاً فشيئاً من خلال عدّةِ وثائقَ، كانت آخرَها الرسالةُ العامةُ "إنجيل الحياة" ليوحنا بولس الثاني (28). تقترحُ الكنيسةُ بقوّةٍ هذا الرابطَ القائم بينَ أخلاقياتِ الحياةِ والأخلاقياتِ الإجتماعيةِ، مدركةً بأنه «لا يستطيعُ مجتمعٌ أن يقومَ على أساسٍ متينٍ، إذا اعترفَ بالكلامِ بقِيَمِ الكرامة والعدالةِ والسلامِ، وناقضَ نفسَه مناقضةً جذريةً، بالرضى أو بالتغاضي عن مختلفِ أشكالِ الإزدراءِ بالحياةِ البشرية والتعرضِ لها وبخاصةٍ الحياةِ الضعيفة أو المهمّشة» (29).

أما الإرشادُ الرسولي "إعلانُ الإنجيل" فله صلةٌ وثيقةٌ بالتنمية، من حيثُ أن «البشارةَ لن تكونَ كاملةً ما لم تقمْ الاعتبارَ للعلاقاتِ الإيجابيةِ والدائمةِ بين الإنجيلِ وحياةِ الإنسان، الشخصيةِ والاجتماعية» (30). «إذ أنه ما بين البشارةِ والارتقاءِ الإنساني – في التنميةِ والتحريرِ – في الواقعِ روابطُ عميقةٌ» (31). إنطلاقاً من هذه القناعةِ أوضحَ بولسُ السادس العلاقةَ بين إعلانِ المسيحَ وترقّي الشخصِ في المجتمع. فالشهادةُ لمحبةِ المسيحِ من خلال أعمالِ العدالةِ والسلامِ والتنميةِ تُشكِّلُ جزءاً لا يتجزّء من التبشيرِ بالإنجيلِ، لأن يسوعَ المسيحَ الذي يُحبُنا يهتمُّ بالإنسانِ بكاملِه. على هذه التعاليمِ الهامة يستندُ الجانبُ الإرسالي (32) لعقيدةِ الكنيسةِ الإجتماعية كعنصرٍ أساسيٍّ من التبشيرِ بالإنجيل (33). فعقيدةُ الكنيسةِ الإجتماعية هي إعلانٌ للإيمانِ وشهادةٌ له، وهي أداةٌ وحيِّزٌ لا يُستغنى عنه في التربيةِ الإيمانية.

16. في "ترقيةِ الشعوب" أرادَ بولس السادس أن يقولَ لنا، قبلَ كلِّ شيء، بأن التطوُّرَ في أصلِهِ وجوهرِه هو دعوةٌ: «ومن تدابيرِ الله أن كلَّ إنسانٍ مدعوٌّ إلى الترقي، لأن كلَّ حياةٍ دعوةٌ» (34). وهذا ما يُشرعِنُ تدخُّلَ الكنيسةِ في مشكلاتِ الترقّي. فلو كانَ الترقّي أمراً متعلّقاً بالجوانبِ التقنيةِ من حياةِ الإنسانِ ولا يخصُّ معنى مسيرتِهِ في التاريخ إلى جانبِ إخوتِهِ أو تحديدِ غايةِ هذه المسيرةِ لما كانَ للكنيسةِ الحقُّ في الكلامِ عنه. لقد كان بولسُ السادسُ مثلُه مثلُ لاون الثالث عشر في رسالتِه "الشؤون الحديثة" (35) يعي تماماً أنه بإلقائهِ نورَ الإنجيلِ على مسائلِ زمنِهِ الإجتماعية إنما كان يقومُ بواجبِهِ الذي تمليهِ عليهِ مهمّتُهُ (36).

أن نقولَ بأن الترقيَ هو دعوةٌ فهذا يعني بأنه من جهةٍ يصدُرُ عن نداءٍ متسامٍ عن البشرِ ومن جهةٍ أخرى فهو لا يحتوي في ذاتِهِ على معناهُ الأخير. لا تردُ كلمةُ "دعوة" عبثاً في مقطعٍ آخرٍ من الرسالةِ العامة، حيث يؤكَّد على أنَّ: «لن توجدَ أنسنةٌ حقيقيةٌ إلا تلكَ المنفتحةُ على المُطلق، مع الاعترافِ بدعوةٍ تعطي الفكرةَ الحقيقيةَ عن الحياةِ الإنسانية» (37). هذه النظرةُ للتنميةِ هي قلبُ "ترقّي الشعوب" والدافعُ لأفكارِ بولس السادس حولَ الحريةِ والحقيقةِ والمحبةِ في التنميةِ. وهي أيضاً السببُ الرئيسيُّ الذي يجعلُ من تلك الرسالةِ العامةِ رسالةً تنطبقُ على واقعِنا الحالي.

17. الدعوةُ هي نداءٌ يتطلبُ جواباً حراً ومسؤولاً. هكذا فإن التنميةَ الإنسانيةَ المتكاملة تفترضُ الحريةَ المسؤولةَ في الأشخاصِ والشعوبِ: لا توجدُ مؤسسةٌ خارجَ المسؤوليةِ الإنسانيةِ أو فوقَها تقدرُ أن تضمنَ تنميةً كهذه. إن «الانتظاراتِ المأسويةَ الثقيلةَ بالوعودِ وإنما بُنيانُها أوهامٌ» (38) تبني بإستمرارٍ اقتراحاتِها على أساسِ إنكارِ البُعدِ المتسامي للتنمية، يرافقُهُ شعورٌ أكيدٌ بالحصولِ عليها. لكن هذا التأكيدُ المزيّفُ يتحوَّلُ إلى ضعفٍ لأنه يجعلُ من الإنسانِ مجرّدَ أداةٍ لتحقيقِ التنمية، أمّا التواضعُ في قبولِ دعوةٍ فيتحوّلُ إلى استقلاليةٍ حقيقية، لأنه يجعلُ الشخصَ حراً. لم يكن بولسُ السادس ليشكَّ في أن العقباتِ والموانعَ تحولُ دون التنميةِ، لكنه كانَ متأكداً أيضاً من أنَّ «كل واحدٍ يظلّ، هو نفسُه، وأيّاً كانتْ العواملُ التي تؤثرُ فيه، العاملَ الرئيسي في أمرِ نجاحِه أو إخفاقِه» (39). تتعلّقُ هذه الحريةُ بالتنميةِ التي نتطلّعُ إليها لكنها تتعلّقُ أيضاً بحالاتِ التأخُّرُ في التنميةِ التي ليست ثمرةَ الصدفةِ أو نتيجةَ ضرورةٍ تاريخيةٍ، بل تقعُ على عاتقِ المسؤوليةِ البشرية. لهذا فإن «شعوب الجوع تُسائِلُ اليوم بألمٍ فاجعٍ شعوبَ الثراء» (40). هذه أيضاً دعوةٌ، نداءٌ يوجّههُ أناسٌ أحرارٌ لأناسٍ أحرارٍ لأجلِ الإشتراكِ في تحمُّلِ المسؤوليةِ. لقد أدركَ بولسُ السادس بأهميةِ البُنى الإقتصاديةِ والمؤسساتِ، لكن من الواضحِ أنه أدركَ أيضاً كونَها أدواتٍ في يدِ الحريةِ البشرية. لا تكونُ التنميةُ إنسانيةً إلا إذا كانت حرةً؛ وفي ظلِّ الحريةِ المسؤولةِ وحدَها يمكنُها أن تنشأَ بطريقةِ مناسبة.

18. عدا الحريّةِ، تتطلَّبُ أيضاً التنميةُ الإنسانيةُ المتكاملة، من حيث أنها دعوةٌ، أن تُحتَرَمَ حقيقتُها. إن الدعوةَ للترقّي تدفعُ البشرَ لأن «يعملوا أكثر، ويعرفوا أكثر، ويملكوا أكثر، لكي يكونوا أكثر (إنسانيةً)» (41). لكن المشكلة هي ما معنى أن «يكون المرءُ أكثر»؟ يُجيبُ بولس السادس على هذا التساؤلِ إذ يُشيرُ إلى المضامينِ الجوهريةِ لـ "التنمية الأصيلة": فهي «كي تكون صحيحةً يجب أن تكون كاملةً، أي أن تشملَ كلَّ إنسانٍ، والإنسانَ كلَه» (42). من بينِ النظراتِ العديدةِ للإنسانِ التي يقترحُها علينا مجتمعُ اليومِ، وهي أكثرُ من تلك التي كانت في زمنِ بولس السادس، تتميَّزُ النظرةُ المسيحيةُ للإنسان بأنها تؤكّدُ وتُبرِّرُ قيمةَ الشخصِ البشري غيرِ المَشروطة ومعنى نموِّه. إن الدعوةَ المسيحيةَ للتنميةِ تُساعدُ على تحقيقِ النمو لجميعِ الناس وللإنسانِ بكاملِه. لقد كتبَ بولس السادس: «ما يهمّنا نحن إنما هو الإنسانُ، كلُّ إنسانٍ، وكلُّ جماعةِ الناسِ، وصولاً إلى البشريّةِ بأجمعِها» (43). فالإيمانُ المسيحيُّ يهتمُّ بالتنميةِ، ليس بإعتمادِهِ على امتيازاتٍ أو مواقعَ سُلطَةٍ ولا حتى على انجازاتِ المسيحيينَ، حتى ولو أنها وُجِدَت وما زالت توجَدُ اليومَ أيضاً دون أن تخلو من محدوديّاتٍ طبيعيةٍ (44)، بل بإعتمادِهِ على المسيحِ وحدَهِ، فكلُّ دعوةٍ أصيلةٍ للتنميةِ البشريةِ المتكاملة يجب أن ترتبطَ به. الإنجيلُ هو عنصرٌ أساسيٌّ من عناصرِ التنميةِ، لأن به «إذ يكشفُ المسيحُ سرَّ الآبِ ومحبَّتِهِ، يكشفُ أيضاً الإنسانَ للإنسانِ بشكلٍ كاملٍ» (45). والكنيسةُ، إذ تتعلّمُ من ربِّها، تسبرُ علاماتِ الأزمنةِ وتؤوِّلُها وتقدِّمُ للعالمِ «ما هو من شأنِها الخاص: الرؤيةُ الجامعةُ للإنسانِ والإنسانية» (46). وبما أن اللهَ ينطقُ الـ «نَعَم» الأعظَم للإنسان (47)، لا يقدِرُ الإنسانُ إلا أن ينفَتِحَ على الدعوةِ الإلهيةِ ليُحقِّقَ تنميتَهُ. إن حقيقةَ التنميةِ تكمُنُ في شموليّتِها: فإن لم تخصَّ الإنسانَ بكاملِهِ وكلَّ إنسانٍ لا يمكنُ للتنميةِ أن تكونَ حقيقيّة. هذا هو لبُّ رسالةِ "ترقي الشعوب"، وهي تصلُحُ اليومَ وأبداً. فالتنميةُ البشريةُ المتكاملة على المستوى الطبيعي، لكونِها جواباً لدعوةِ اللهِ الخالق (48)، تتحقَّقُ من خلالِ «أنسنةٍ متساميةٍ تُحققُ للإنسانِ ملأَه الأكبر: تلك هي الغايةُ الأعظمُ للنموّ الشخصيّ» (49). تخصُّ إذاً الدعوةُ المسيحيةُ، لهذا النوعِ من التنميةِ، المستوى الطبيعيّ والفَوطبيعيّ؛ لهذا السبب «عندما يُغيَّبُ اللهُ تنحسِرُ قدرتُنا على التعرُّفِ على النظامِ الطبيعيّ، على الغايةِ و"الصلاح"» (50).

19. ختاماً، إنَّ اعتبارَ التنميةِ دعوةٌ يقودُنا إلى مركزيّة المحبة فيها. لقد لاحظَ بولس السادس في رسالته العامة "ترقّي الشعوب" بأن الأسباب الأساسيةَ لتأخُّرِ التنميةِ ليست ذا طبيعةٍ مادّية. لذلك فقد دعا للتقصّي عنها في أبعادٍ إنسانيةٍ أخرى. فهي تكمنُ أولاً في الإرادةِ التي غالباً ما تتنصَّلُ من واجباتِ التضامُن. وثانياً في الفكرِ الذي لا يعرفُ دائماً كيف يوجِّهُ الإرادةَ بشكلٍ مناسب. لذلك فإنَّ طَلَبِ التنميةِ يستلزمُ «الحكماءَ وأهلَ الرأي الأصيلِ عدداً أوفر لتحقيقِ أنسنةٍ جديدةٍ تتيحُ، لإنسانِ اليومِ، أن يجدَ نفسَه ثانيةً» (51) ليس هذا فقط، بل إنَّ لتأخُّرِ التنميةِ سبباً أهمَّ من ضآلةِ الفكرِ، إنّه «فقدانُ الأخوَّةِ بين الناس، وبين الشعوب» (52). فهل يستطيعُ الناسُ الحُصولَ على هذه الأخوَّةِ وحدَهم؟ إن المجتمعَ المُتعولِمَ بإستمرارٍ يجعلُنا أكثرَ قرباً لكنه لا يجعلُنا أخوةً. أمّا العقلُ وبالرغم من قدرتِهِ بمُفردِهِ على تلمُّسِ المساواةِ بين الناسِ وعلى ضبطِ تعايُشٍ مدنيٍّ إلا أنهُ لا ينجحُ في تأسيسِ الأخوَّة بينهم. فهذه تجدُ أصلَها في دعوةٍ ساميةٍ مِن قِبلِ اللهِ الآب، الذي بادَرَ بمحبّتِنا، وعلّمَنا بابنِهِ ماهيّةَ المحبةِ الأخويّة. في عرضِهِ لدرجاتِ نموِّ الإنسان، وَضَعَ بولس السادس في الذروةِ، بعدَ الإيمان، «الوحدة في محبّة المسيح الذي يدعونا جميعاً للاشتراك، كأبناءٍ، في حياةِ اللهِ الحي، أبي الناسِ أجمعين». (53).

20. تبقى هذه الأفقُ التي شرّعَتْها "ترقّي الشعوب" أساسيةً لإحياءِ إلتزامِنا وتوجيهِه لأجلِ تنميةِ الشعوب. كما تؤكِّدُ "ترقّي الشعوب" بإستمرارٍ أهميةَ الإصلاحات (54) وتطلبُ، أمامَ مشاكلِ الظلمِ الكُبرى المتعلّقةِ بتنميةِ الشعوب، العملَ بشجاعةٍ ودون تلكُّؤٍ. وهي أهميّةٌ تُمليها علينا المحبةُ في الحق. إنها محبةُ المسيحِ التي تدفعُنا (2 كو 5: 14). هذه الأهميةُ لا تجدُ دافعَها في الأشياءِ فقط، ولا تتأتّى من تتابُعِ الأحداثِ والمشكلاتِ وحسب، بل تتولّدُ من الأمرِ الأكثرِ أهميةً: تحقيقُ الأخوّةِ الأصيلة. إنَّ مكانةَ هذه الغايةِ تتطلّبُ انفتاحاً منّا لنفهمَها في عمقِها ولنعملَ بالـ "قَلب"، لنوجّهَ تطورَ الوقائعِ الإقتصاديةِ والإجتماعية نحوَ غاياتٍ إنسانية.

 

الفصل الثاني

التنمية البشرية في وقتنا الحاضر

21. لقد كانت لدى البابا بولس السادس نظرةٌ مُتَّسقةٌ للتنمية. فقد كان يقصدُ بالـ "التنمية" الإشارةَ إلى هدفِ تحريرِ الشعوبِ قبل كلِّ شيء من المجاعةِ والفقر والأمراضِ المستوطِنة والأُميّة. ومن وجهةِ النظرِ الإقتصاديةِ كان هذا يعني مشاركتَها الفعّالةَ والمتساويةَ في المسيرةِ الإقتصاديةِ الدولية؛ ومن وجهةِ النظرِ الإجتماعيةِ ترقيتَها لتصبحَ مجتمعاتٍ متعلّمةً ومتضامنة؛ ومن وجهةِ النظرِ السياسية تجذُّرَ الحكوماتِ الديمقراطيةِ القادرةِ على تأمينِ الحريةِ والسلام. بعدَ سنينَ طوالٍ، وإذ نتمعَّنُ بقلقٍ في عملياتِ التنميةِ وفي آفاقِ الأزماتِ التي تتتابعُ في أزمنتِنا، نتساءلُ كم من آمالِ بولسَ السادسِ قد تحققَتْ بفضلِ نمطِ التنميةِ الذي اعتُمِدَ في العقودِ الأخيرة؟

علينا أن نعترفَ بأن شكوكَ الكنيسةِ، في مقدرةِ الإنسانِ، بالتقنيِّةِ وحدِهِا، على تحديدِ غاياتٍ واقعيّةٍ والتحكّمِ المستمرِّ واللائقِ بالأدواتِ المتوفّرةِ، كان لها أساسٌ من الصحة. فالربحُ أداةٌ مفيدةٌ عندما يُوجَّهُ نحوَ غايةٍ تضفي عليهِ معنى بالنظرِ إلى أسلوبِ تحقيقهِ وطريقةِ استخدامِه. فإن كانَ الهدفُ هو الربحُ بحدِّ ذاتِهِ، وكان يتمُّ الحصولُ عليهِ بطرقٍ جائرةٍ ولم يكن يُستخدَم بهدفِ الخيرِ العام، لهدَّدَ الغِنى ونَشَرَ الفقر. أمّا التنميةُ الإقتصاديةُ التي كان يأملُها بولسُ السادسُ فقد كان عليها أن تُنتِجَ نموّاً حقيقياً يمتدُّ ليشملَ الجميعَ ويقدرُ على الثبات. بالطبعِ لقد كانت التنميةُ ومازالت عاملاً إيجابياً في تحريرِ ملياراتِ البشرِ من الفقرِ ومنحِ بلدانٍ كثيرةٍ الإمكانيةَ لتلعبَ دوراً فعّالاً في السياسةِ الدولية. لكن علينا بالرغمِ من ذلك الإعترافُ بأنَّ هذه التنميةَ الإقتصاديةَ عانت ومازالت تعاني من إلتواءآتٍ ومشاكلَ مأساويةٍ، قد تدهورَت أكثرَ بسببِ الأزمةِ الإقتصاديةِ الحالية. فهي تضعُنا بشكلٍ لا يحتملُ التأجيلَ أمامَ خياراتٍ تؤثّرُ في مصيرِ الإنسانِ نفسِهِ، الذي لا يستطيعُ أن يتجرّدَ من طبيعتِهِ. فالقوى التقنيةُ المستخدمةُ والتبادلاتُ بينَ أرجاءِ العالمِ والتأثيراتُ الضارّةُ للنشاطاتِ الماليّةِ، التي يُساءُ استخدامُها ويغلبُ عليها طابعُ المُضاربة، على الإقتصادِ الواقعي وحركاتِ الهجرةِ الضخمةِ التي غالباً ما تُسبَّبُ ولا تُدارُ كما يجب وإستغلالُ مواردِ الأرضِ دون قيدٍ، كلُّ هذه الأمورُ تدفعُنا اليومَ لنتأمَّلَ بماهيةِ المقاييسِ الضروريةِ لحلِّ المشاكلَ الجديدةَ المختلفةَ عن تلك التي واجهَها بولسُ السادسُ والتي لها قبل كلِّ شيءٍ تأثيرٌ حاسمٌ على خيرِ البشريةِ الحاضرِ والمستقبلي. هناكَ ترابطٌ دائمٌ بينَ مظاهرِ الأزمةِ وحلولِها من جهةٍ وإمكانيةِ تنميةٍ جديدةٍ في المستقبلِ من جهةٍ أخرى. فالواحدُ يحتوي الآخرَ وكلٌّ يتطلَّبُ مجهوداتٍ متجدّدةً لإدراكِهم كوحدةٍ لا تنفصلُ ولتحقيقِ خُلاصةٍ إنسانيةٍ جديدة. من الطبيعيّ أن يُقلقَنا تعقيدُ الوضعِ الإقتصادي الراهنِ وجسامتُهُ، لكن علينا أن نتحمَّلَ بواقعيّةٍ وثقةٍ ورجاءٍ المسؤولياتِ الجديدةِ التي يدعونا إليها مَشهدُ العالمِ المحتاجِ لتجديدٍ ثقافيٍّ عميقٍ ولإكتشافِ القِيَمِ الأساسيةِ التي ينبغي أن يبنيَ عليها المستقبلَ الأفضل. إن الأزمةَ تجبرُنا على إعادةِ تخطيطِ مسيرتِنا وعلى استنباطِ قواعدَ جديدةً وأشكالٍ مختلفةٍ للإلتزامِ، كما تجبرُنا على التركيزِ على الخبراتِ الإيجابيةِ وطرحِ السلبيةِ. هكذا تغدو الأزمةُ فرصةً للتمييزِ ولإعادةِ التخطيطِ. من هذا المُنطلقِ الواثقِ لا المستسلمِ علينا مواجهةُ صعابِ الوقتِ الراهن.

22. يتسمُ الوضعُ الراهنُ للتنميةِ بتعددِ محاورِه. عديدون هم مُسببو التنميةِ أو التأخُّرِ وكثيرةٌ هي أسبابُهما، كذلك هي حالُ الأخطاءِ والنجاحات. تدفعُنا هذه الحقيقةُ إلى نبذِ الأيديولوجيات التي تُبسِّطُ الواقعَ بتصنُّعٍ والتحرُّرِ منها، وتحثُّنا على فحصِ الجانبِ الإنسانيِّ للمشاكلِ بشكلٍ موضوعي. اليومَ لم يعد هناكَ فاصلٌ واضحٌ بينَ البلدانِ الغنيةِ والفقيرةِ كما كان على أيامِ "ترقي الشعوب"، كما سبق ونوَّهَ البابا يوحنا بولس الثاني (55). هناكَ تزايدٌ أكيدٌ للغنى العالميّ، لكن هناكَ أيضاً تصاعدٌ في اللامساواة. فئاتٌ اجتماعيةٌ جديدةٌ يُصيبها الفقرُ في البلدان الغنيةِ وتبرزُ أشكالٌ جديدةٌ من البؤس. وفي مناطقَ فقيرةٍ نجدُ بعضَ الجماعاتِ التي تتمتّع بنوعٍ مبالغٍ فيه من التنميةِ المُسرفةِ والمُستهلِكةِ والتي تعارضُ بشكلٍ صارخٍ حالاتِ بؤسٍ لاإنسانيةٍ مستديمة. وهكذا تستمرُ «عثرةُ اللامساواةِ الفاضحةِ» (56). الفسادُ والخروجُ عن القانونِ متواجدَين وبكلِّ أسفٍ في تصرّفاتِ اقتصاديينَ وسياسيينَ ينتمون إلى بلدانٍ غنيةٍ، قديمةٍ وحديثة، وفي البلدانِ الفقيرةِ أيضاً. نجدُ مِن الذين لا يحترمونَ الحقوقَ الإنسانيةَ للعمّال أيضاً كُبرى الشركات المتعددةِ الجنسيات وحتى المجموعاتِ الإنتاجيةِ المحلية. غالباً ما تحوّلتْ المُساعدات الدوليةِ عن غاياتها بسببِ انعدام المسؤوليةِ مِن قِبل سلسلةِ المانحين والمُستفيدين. وبإمكاننا أن نجدَ تردّي المسؤولياتِ نفسه في مجالِ التنميةِ أو التأخُّرِ اللاماديّ والثقافيّ. فالبلدانُ الغنيةُ تتبنّى أشكالاً مُفرطةً لحمايةِ المعرفةِ من خلال إستعمالِ حقوق الملكية الفكرية بصرامةٍ شديدةٍ، خصوصاً في مجالِ الصحة. وفي نفسِ الوقت نجدُ في بعضِ البلدانِ الفقيرةِ استمرارَ أنماطٍ ثقافيةٍ وأنظمةٍ اجتماعيةٍ تُبطئُ عمليةَ التنمية.

23. هناك العديدُ من المناطق،على سطحِ الأرض، التي تطوّرَتْ اليوم، وإن بأسلوبٍ لا يخلو من المشاكلِ وعديمِ التجانُس، وبذلك دخلتْ في عِدادِ القوى العُظمى المؤهّلة لتلعبَ أدواراً مهمّةً في المستقبل. علينا أن نؤكّدَ عدمَ كفايةِ الترقّي الإقتصادي والتقني. على التنميةِ أن تكونَ قبل كلِّ شيء حقيقيةً ومتكاملة. فتخطّي التخلّفِ الإقتصادي، بالرغم من كونِه في ذاتِه أمراً إيجابياً، لا يحلُّ مشكلةَ النموِّ الإنساني المعقّدة، وهذا بالنسبةِ للبلدان المعنيّة بهذا التقدُّم كما بالنسبةِ للبلدان المتقدّمة إقتصادياً، وكذلك الأمرُ بالنسبة للبلدانِ التي ما زالت فقيرةً المُعرَّضةِ لتُعاني، علاوةً على أشكالِ الإستغلالِ القديمة، من جراءِ النتائجِ السلبية لتنميةٍ متعرّجةٍ وغير متوازنة.

بعدَ سقوطِ أنظمةِ الإقتصاديةِ والسياسيةِ الشيوعيةِ لبلدانِ أوروبا الشرقية ونهايةِ ما يدعى بالممانعات، كان من الضروريّ إعادة النظرِ الشاملةِ في مسألةِ التنمية. هذا ما طلبَهُ يوحنا بولس الثاني عام 1987 عندما أشارَ إلى تلك "الممانعات" كأحد أسباب التأخُّر الرئيسية (57). بمقدار ما كانت السياسةُ تحجبُ المواردَ عن الإقتصادِ والثقافةِ والإيديولوجيةُ تمنعُ الحريةَ. كذلك عام 1991، وبعدَ أحداثِ سنة 1989، قد طلبَ أن تُرافقَ نهايةَ "الممانعاتِ" إعادةُ تخطيطٍ شاملةٍ للتنميةِ، ليس في تلك البلدان وحسب بل في الغربِ أيضاً وفي تلك المناطقِ الناميةِ من العالم (58). هذا لم يتحققْ إلا جزئياً وهو ما زال واجباً حقيقياً علينا تتميمُه، ربما بإستغلالِ فرصةِ إتخاذِ القراراتِ اللازمةِ لتخطّي المشاكلِ الإقتصاديةِ الراهنة.

24. لم يكنِ العالمُ في زمنِ بولس السادس – بالرغم من تطوُّر مجتمعِ آنذاكَ إلى درجةِ أن المسائلَ الإجتماعيةَ قد أخذتْ بُعداً عالمياً – على نفسِ درجةِ الإندماج التي يتمتّعُ بها اليوم. فقد كانت النشاطاتُ الإقتصاديةُ والمهامُ السياسيةُ تدورُ عامةً في نفس المجالِ ولذلك كان بإمكانِ كلٍّ منهما الإعتمادُ على الآخر. لقد كان الإنتاجُ بأكملِه يتمُّ في نطاقِ الدُوَل ولم تكن الإستثماراتُ النقديةُ موضوعَ تداولٍ خارجيٍّ إلا بشكلٍ محدودٍ، لهذا كان بإمكانِ سياساتِ الكثيرِ من الدولِ أن تعطي الأولويةَ للإقتصادِ، وأن تتحكّمَ بشكلٍ من الأشكالِ بسيره بفضلِ الأدواتِ التي كانت بحوذتِها. لهذا قد أولَت "ترقي الشعوب" مهمّةً مركزيةً، وإن لم تكن الوحيدةَ، لـ "السُلطات العامّة" (59).

أما في زمنِنا الراهنِ فالدولةُ تجدُ نفسَها أمامَ الحدودِ المفروضةِ على سُلطتِها مِن قِبَلِ الوضع الإقتصادي/التجاري والنقدي الدُولي الجديد، والمتّسمِ بتحرُّكٍ متسارعٍ لرؤوسِ الأموالِ ولأدواتِ الإنتاجِ المادّيةِ واللامادية. لقد غيّرَ هذا المناخُ الجديد سُلطةَ الدُولِ السياسية.

لهذا فإن استفدْنا اليومَ من الدروسِ التي تمليها علينا الأزمةُ الإقتصاديةُ الراهنةُ والتي دفعتْ السُلطاتِ العامةَ في الدول لتنشغلَ مباشرةً في تصحيحِ أخطاءٍ واختلالاتٍ، لرأيْنا واقعيةَ التقييمِ المتجدِّدِ لأدوارِها ونفوذِها، التي علينا أن نعيدَ النظرَ فيها بحكمةٍ ونقيِّمها بشكلٍ يؤهّلُ هذه السُلُطاتِ، حتى بواسطةِ أنماطٍ جديدةٍ من التدخّل، لمواجهةِ تحدياتِ العالم الراهن. وبفضلِ تقويمٍ أفضل لدورِ السُلُطاتِ العامةِ الجديدِ، نتوقّعُ تقويةَ الأساليبَ الحديثةَ للمشاركةِ في السياسةِ المحلّيةِ والدولية، والتي تُنجَزُ عبر نشاطِ الهيئاتِ العاملةِ في المجتمعِ المدني؛ بهذا الإتجاه نرجو زيادةَ الإنتباهِ والمشاركةَ الحثيثةَ في الشؤونِ العامةِ مِن قِبَلِ المواطنين.

25. من وجهة نظرٍ اجتماعية، يصعبُ حالياً وربما سيصعبُ أكثرَ في المستقبلِ على أنظمةِ الحمايةِ والوقاية، التي كانت موجودةً في أيامِ بولس السادس في بلدانٍ كثيرة، التوصلُ إلى أهدافِ العدلِ الإجتماعي في إطارِ القوى المتغيّرةِ جذرياً. إن السوقَ المُعَولَم قد أدّى، بدافعِ البلدانِ الغنيةِ، إلى البحثِ عن مناطقَ ليُنقَلَ إليها الإنتاجُ المنخفضُ الثمنِ بهدفِ تقليصِ أسعارِ العديدِ من السلعِ وزيادةِ القدرةِ الشرائية وتسريعِ نسبةِ التنميةِ المركّزةِ على تحقيقِ استهلاكٍ أكبرَ في السوق المحلّي. وبالتالي أدّى السوقُ لظهورِ أنماطٍ جديدةٍ من المنافسةِ بين الدُول، بهدفِ جذبِ الإستثماراتِ الأجنبية لتقيمَ مراكزَ انتاجٍ لها، وهذا بواسطةِ تدبيراتٍ عديدةٍ منها إدارةٌ ماليةٌ مشجّعةٌ وتحريرُ عالمِ العملِ من القيودِ التشريعيّة. لقد نتجَ عن هذه الأمورِ تقليصُ شبكاتِ الضمانِ الإجتماعي في سبيلِ الإستفادةِ من الإمتيازاتِ التنافسيةِ للسوقِ العالمية، مما يعرّضُ للخطرِ الشديدِ حقوقَ العُمّال وحقوق الإنسانِ الأساسيةَ والتعاونَ التقليدي القائمَ في مختلفِ الأنظمةِ الإجتماعية. إن أنظمةَ الضمانِ الإجتماعي معرضةٌ لفقدانِ دورِها في مختلفِ البلدان، الناميةِ منها والمتطورةِ والفقيرةِ. في هذه الحالِ يمكنُ لسياساتِ الميزانياتِ العامة – بتخفيضِ المصاريفِ الإجتماعية، الأمرُ الذي غالباً ما تدعمُهُ المؤسسات المالية الدولية – أن تتركَ المواطنينَ عاجزين في مواجهةِ الأخطارِ القديمةِ والحديثة؛ عجزٌ تزايدَ بسببِ تناقُصِ دورِ التجمّعات العُمّالية في الحمايةِ الفعّالة. تجعلُ التغيُّراتُ الإجتماعيةُ والإقتصاديةُ مهمةَ النقابات العُمّالية في تمثيلِ مصالحِ العمّالِ أكثرَ صعوبةً، وهذا يتفاقم بسبب أن الحكوماتِ – لأسبابٍ إقتصاديةٍ – غالباً ما تحدُّ من حريةِ النقاباتِ أو من قدرتِها على التفاوض. وبهذا على شبكاتِ التضامُنِ التقليديةِ أن تواجهَ معوّقاتٍ متزايدةً. لذا علينا أن نُثمِّنَ اليوم أكثرَ من أي وقتٍ مضى عقيدةَ الكنيسةِ الإجتماعيةِ التي دَعَت، بَدءاً من رسالة البابا لاون الثالث عشر "الشؤون الحديثة" (60) لقيامِ تجمُّعاتٍ عُمّاليةٍ للدفاعِ عن حقوقِ أفرادها، وللإستجابةِ بجاهزيةٍ وبُعدِ نظرٍ لقيامِ توازناتٍ جديدةٍ ليس على المستوى المحلّي وحسب بل على المستوى الدولي أيضاً.

إنَّ ظاهرةَ التنقُّل للعمل مجتمعةً مع تعميمِ إزالةِ القيودِ التشريعيةِ لَمهمَّةٌ، وهي لا تخلو من الجوانبِ الإيجابية لأنها قادرةٌ على تحفيزِ انتاجِ ثروةٍ جديدةٍ والتبادلِ بين الثقافاتِ المختلفةِ. ومع ذلك، عند يصبحُ غموضُ ظروفِ العملِ، نتيجةَ عملياتِ التنقلِ والتحررِ من القيودِ التشريعيةِ، أمراً متفشّياً، تتولَّدُ أشكالٌ من عدمِ الاستقرار النفسي، وصعوباتٌ بشأنِ تخطيطِ دروبِ الحياة، ومنها التصميمُ على الزواج. ينتجُ عن ذلك ظهورُ حالاتٍ من التدهورِ الإنسانيّ، فضلاً عن الإسرافِ في المجتمعِ. بالمقارنةِ مع ما كان يحدثُ في المجتمعِ الصناعي في الماضي، اليوم تثيرُ البطالةُ جوانبَ جديدةً من الضآلةِ الإقتصادية ولا يمكنُ للأزمةِ الراهنةِ سوى أن تزيدَ الوضعَ سوءاً. إن الإبتعادَ عن العملِ لمدةٍ طويلةٍ، أو الإعتمادَ المطوَّلَ على المعوناتِ العامةِ أو الخاصة، يُقوِّضانِ حريةَ الشخصِ وابداعاتِه لا بل علاقاتِهِ العائليةَ والاجتماعيةَ، بالإضافة للمعاناةِ النفسيةِ والروحية. وأود أن أذكِّرَ الجميعَ، وخاصة الحكوماتِ المعنيةَ في تجديدِ ملامحِ الترتيباتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ في العالم، بأنَّ أولَ "رأسمالٍ" يجب المحافظةُ عليهِ وتقديرُه هو الإنسانُ، أي الشخصُ، بمُجمَلِهِ: "فالإنسانُ هو مُبدعُ كلِّ الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ وهو مركزُها وهدفُها (61).

26. أما الإختلافُ على المستوى الثقافي، بينَ ما كان عليهِ الأمرُ في زمنِ بولس السادس وما هو عليهِ الآن، فهو أكثرُ وضوحاً. فقد كانتِ الثقافاتُ آنذاك واضحةَ المعالِمِ، إلى حدٍّ ما، وكان يتوفرُ المزيدُ من فُرَصِ الدفاع ضدَّ محاولاتِ التذويب الثقافي. أما اليوم فإمكانيةُ التفاعلِ بين الثقافاتِ قد زادت زيادةً ملحوظةً مما يتركُ مجالاً لآفاقٍ جديدةٍ  تتمثَّلُ في الحوار بين الثقافاتِ، حوارٍ، كي يكونَ فَعَّالاً، يجب أن ينطلقَ مِن وعي وثيقٍ للهويةٍ المحددةٍ لأطرافه. مع ذلكَ لا ينبغي تجاهلُ حقيقةَ أنَّ إزديادَ التبادلاتِ الثقافيةِ واعتبارَها سِلَعاً تجارية لأمرٌ يحتوي على خطرٍ مزدوج. نلاحظُ، أولاً، وجودَ انتقائيةٍ ثقافيةٍ غالباً ما تُتَّخَذُ دون تمحيص: إذ تُقرَّبُ الثقافاتُ ببساطةٍ جنباً إلى جنب وتُعتَبَرُ جميعها متكافئةً جوهرياً وقابلةً للتبادُل بين بعضِها البعض. مما يدعمُ الخضوعَ لنسبويَّةٍ لا تساعدُ الثقافاتِ على بناءِ حوارٍ حقيقي بينها؛ أما على المستوى الاجتماعي فتؤدّي النسبويةُ الثقافيةُ إلى تقاربِ الجماعاتِ الثقافيةِ أو على تعايُشِها جنباً إلى جنب ولكن بشكلٍ منفصل، دون حوارٍ حقيقي، وبالتالي دون انسجامٍ حقيقي. وثانياً، هناك الخطرُ المقابلُ، أي تجاهلُ الإختلافاتِ الثقافيةِ (التسطيحُ الثقافي) ومطابقةُ سلوكياتها وأساليبِ الحياة. وبالتالي يضيعُ المعنى الأعمقُ لثقافةِ كلِّ أمّةٍ، وتضيعُ تقاليدُ الشعوبِ المختلفة، والتي إنطلاقاً من أُطُرِها يواجهُ المرءُ الأسئلةَ الأساسيةَ التي يَطرحُها عليه الوجودُ (62). هكذا تعملُ الإنتقائيةُ معَ التسطيحِ الثقافي على فصلِ الثقافةِ عن الطبيعةِ البشرية. وبالتالي، لا تفلحُ الثقافاتُ في تقييمِ ذواتِها قياساً بطبيعةٍ تتسامى عنها (63)، لتنتهي بإعتبارِ أن الإنسانَ هو نتيجةٌ لثقافتِهِ لا غير. عندما يحدثُ هذا، تواجهُ البشريةُ مخاطرَ جديدةً من العبوديةِ والاستغلال.

27. لا يزال تأمينُ الحياةِ منعدماً في كثيرٍ من البلدانِ الفقيرة، ولا بل مِن المرجحِ أن تزيدَ حدَّتُهُ، فهو نتيجةٌ لنقصِ الغذاء: فالمجاعةُ لا تزالُ تَحصدُ أرواحَ العديدِ مِنَ الضحايا الذين هم كَلِعازَر الذي لا يتسنّى له، كما كان يأملُ بولس السادس، الجلوسَ إلى مائدةِ الغني (64). إنَّ إطعامَ الجياع (راجع متى 25: 35، 37، 42) لَواجبٌ أخلاقيٌّ للكنيسة الجامعةِ، وهو يوافقُ تعاليمَ مؤسِّسها، الربِّ يسوعَ، في التضامنِ والمشاركةِ. إنَّ القضاءَ على المجاعةِ في العالمِ، قد غَدا في عصرِ العولمةِ هذا، هدفاً علينا السعي نحوهُ من أجل حمايةِ السلامِ والاستقرارِ على كوكبنا. فالمجاعةُ ليست نتيجةَ ندرةِ المصادرِ المادّيةِ بقدرِ ما هي نتيجةُ ندرةِ المواردِ الاجتماعية، وأهمّها المؤسساتُ المَعنيّة. فما ينقصُ هو وجودُ هيكلٍ تنظيميٍّ للمؤسساتِ الاقتصاديةِ قادرٍ على ضمانِ الحصولِ على الغذاءِ والمياهِ بشكل منتظمٍ ومناسبٍ للتغذيةِ، وعلى مواجهةِ الاحتياجاتِ الأساسيةِ وحالاتِ الطوارئ في حالِ حدوثِ أزمةٍ غذائيةٍ حقيقيةٍ، ناجمةٍ عن أسبابٍ طبيعيةٍ أو عن لامسؤوليةِ السياسةِ الوطنيةِ والدولية. ينبغي معالجةُ مشكلةِ انعدامِ الأمنِ الغذائي من منظورٍ طويلِ الأجل وذلك بالقضاءِ على الأسبابِ الهيكليةِ التي تُثيرُها، كما وينبغي تعزيزُ التنميةِ الزراعيةِ في البلدانِ الأشدِّ فقراً من خلالِ الاستثمارِ في البنيةِ التحتيةِ للمناطقِ الريفيةِ وفي نُظُم الري والنقلِ وتنظيم الأسواق، وفي مجالِ التدريبِ على التقنياتِ الزراعيةِ الملائمةِ ونشرِها، والتي تكونُ قادرةً على تسخيرٍ أفضلَ للمواردِ البشريةِ والطبيعيةِ والاجتماعيةِ/الاقتصاديةِ المتيسِّرة مَحلياً، وذلك لضمانِ استدامتِها على المدى الطويل. كلُّ هذا يتحققُ مِن خلالِ إشراكِ المجتمعاتِ المحليةِ في الخياراتِ والقراراتِ المتعلقةِ باستخدامِ الأراضي الصالحةِ للزراعة. من المفيدِ، مِن هذا المنظور، مراعاةُ الآفاقِ الجديدةِ المُشرَّعة بفضلِ الاستخدامِ الصحيحِ للتقنياتِ الزراعيةِ التقليديةِ منها والمبتكرة، بعد أن تكونَ قد امتُحِنَتْ ووُجِدَتْ ملائمةً، صديقةً للبيئةِ ومحترمةً السكانَ الأكثرَ عوزاً. في الوقتِ نفسِهِ، ينبغي عدمُ إغفالِ مسألةِ إصلاحٍ مُنصفٍ للأراضي الزراعية في بلدانِ العالمِ النامي. فالحقُّ في الحصولِ على الغذاءِ والمياه، يلعبُ دوراً هاماً في الحصولِ على الحقوقِ الأخرى، إنطلاقاً مِن الحقِ الأساسيّ في الحياة. ولذلك فمن الضروري أن ينضجَ وعيٌ مشتركٌ في اعتبارِ الغذاءِ والمياهِ حقوقاً عالميةً لجميعِ البشر، دون تفرقةٍ أو تمييز (65). ومن المهم أيضاً تسليطُ الضوءِ على أنَّ التضامنَ لتنميةِ البلدانِ الفقيرةِ يمكنُ أن يُشكلَ مشروعَ حلٍّ للأزمةِ العالميةِ الراهنة، كما ارتأى بعضُ الزعماءِ السياسيين ومسؤولي المؤسساتِ الدوليةِ في الآونةِ الأخيرة. فدعمُ الدول الفقيرةِ، بواسطةِ خططِ تمويلٍ مستوحاةٍ من التضامنِ، لتقومَ هذه الدُولُ بنفسِها بتلبية الطلبِ على السلع الاستهلاكيةِ والتنميةِ لجميعِ مواطنيها، لا يؤدّي إلى نموٍ اقتصاديٍّ حقيقيٍّ وحسب، بل قد يُساعد أيضاً في دعمِ القدرات الإنتاجيةِ للبلدانِ الغنيةِ التي يُحتمل أن تتأثرَ من جراءِ الأزمة.

28. إنَّ أحدَ الجوانبِ الأكثرِ وضوحاً بخصوصِ التنميةِ في زمنِنا هو أهميةُ مسألةِ احترامِ الحياةِ، والتي لا يمكن فصلُها بأي حالٍ من الأحوالِ عن المسائلِ المتعلقةِ بتنميةِ الشعوب. لقد غدا هذا الجانبُ ذا أهميةٍ متزايدة في الآونةِ الأخيرة، إذ يُجبرُنا على توسيعِ مفاهيمِ الفقر (66) والتخلُّفِ وربطِها بمسألةِ قبولِ الحياة، خصوصاً هناك حيث تُعاقُ بطرقٍ مختلفة.

فالأمرُ لا يقفُ عندَ حدِّ معدّلاتِ وفياتِ الأطفالِ المرتفعة والتي يُسببُها الفقرُ في كثيرٍ من المناطقِ، بل لا تزالُ قائمةً، في أنحاءٍ مختلفةٍ، ممارساتُ رقابةٍ ديموغرافيةٍ من قِبَلِ الحكومات، والتي غالباً ما تنشُرُ وسائلَ منعِ الحملِ، لا بل تصلُ لحدِّ فرضِ الإجهاضِ أيضاً. هكذا نجدُ التشريعاتِ المضادةَ للحياةِ منتشرةً على نطاقٍ واسعٍ في البلدان المتقدمةِ اقتصادياً، وقد أصبحت تتحكّمُ بالأعرافِ والممارسات، وتعزِّزُ عقليةً معاديةً للإنجابِ، غالباً ما يحاوَل نقلُها إلى دولٍ أخرى كما لو كانت تقدماً ثقافياً.

كما وتعملُ بعضُ المنظماتِ غيرِ الحكوميةِ بنشاطٍ لنشرِ الإجهاضِ، مشجعةً أحياناً في البلدانِ الفقيرةِ عملياتِ التعقيمِ، حتى دونَ علمِ بعضِ النسوة. وهناك أيضاً شكوكٌ لا تخلو من الصحةِ بأنَّ المساعداتِ التنمويةَ نفسَها ترتبطُ أحياناً بسياساتٍ صحيّةٍ معينةٍ تنطوي على فرضِ رقابةٍ قويةٍ على الولادات. ومما يدعو إلى القلقِ أيضاً تلكَ القوانينُ التي تسمحُ بالموتِ الرحيم والضغوطُ التي تمارسُها جماعاتٌ محليةٌ ودوليةٌ في سبيلِ تشريعِهِ.

إنَّ الانفتاحَ على الحياةِ هو في قلبِ التنميةِ الحقيقية. فعندما يتوجّهُ مجتمعٌ ما نحوَ انكارِ الحياةِ وقمعِها، ينتهي به المَطافُ ليفقدَ الدافعَ والطاقاتِ اللازمةَ للسعي لخدمةِ خيرِ الإنسانِ الحقيقي. إن فُقِدَ الإحساسُ الشخصي والاجتماعي تجاهَ تقبُّل حياةٍ جديدةٍ، جفَّتْ أشكالٌ أخرى من الترحيبِ بما هو نافعٌ للحياةِ الاجتماعية (67). فقبولُ الحياةِ يقوّي طاقاتِ الإنسانِ الأخلاقية ويجعلُهُ قادراً على مساعدةِ الآخرين. إن الإعتناءَ بالانفتاحِ على الحياةِ يُمكِّنُ الشعوبَ الغنيةَ من أن تفهمَ بشكلٍ أفضلَ احتياجاتِ الفقراءِ، وأن تتجنَّبَ استخدامَ المواردِ الاقتصاديةِ والفكريةِ الكبيرةِ لتلبيةِ رغباتِ مواطنيها الأنانية، وأن تُشجِّعَ بدلاً من ذلك فضائلَ الأعمالِ بهدفِ انتاجٍ صحيحٍ أخلاقياً مُتّسمٍ بالتضامنِ، وذلك بإحترامِ الحقِّ الأساسيِّ في الحياة لكلِّ شعبٍ وكلِّ شخص.

29. هناك جانبٌ آخرٌ مِن جوانبِ الحياةِ في عصرِنا، وهو مرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ مع التنميةِ: إنّه الحرمانُ من الحقِّ في الحريةِ الدينية. وهنا لا أشيرُ فقط إلى الصراعاتِ والنزاعاتِ التي ما زالت قائمةً في العالمِ لدوافعَ دينيةٍ، على الرغم مِن أن الدينَ غالباً ما يكونُ مجردَ غطاءٍ لأسبابٍ من نوعٍ آخر، مثل التعطُّشِ للسلْطةِ وللثروة. والحقيقةُ أنه كثيراً ما تُرتكَبُ جرائمُ القتلِ في أيامِنا باسمِ اللهِ القدّوس، الأمرُ الذي لاحظْناهُ وشجبْناهُ علناً ومراراً: أنا ومِن قبلي سلَفي البابا يوحنا بولس الثاني (68). فالعنفُ يُعرقِلُ التنميةَ الحقيقيةَ ويمنعُ تطورَ الشعوبِ نحو مستوياتٍ أعلى من الرفاهِ الاجتماعي والإقتصادي والروحي. هذا ينطبقُ بصفةٍ خاصةٍ على الإرهابِ ذي الدوافعِ الأصولية (69). والذي يولِّدُ الألمَ والخرابَ والموت، ويوقفُ الحوارَ بين الدول، ويحوِّلُ المواردَ الكبرى عن الاستخدامِ السلميّ والمدني. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنهُ بالإضافةِ إلى التعصُّبِ الديني، الذي يمنعُ في بعض الأماكنِ ممارسةَ الحقِّ في الحرية الدينيةِ، هناكَ التعزيزُ المُبرمجُ للاّمبالاةِ الدينيةِ أو للإلحادِ العمليِّ مِن قِبَلِ العديدِ مِن البلدان والذي يتناقضُ مع احتياجاتِ تنميةِ الشعوبِ وذلكَ بحرمانِهم من المواردِ الروحيةِ والإنسانية. فاللهُ هو الضامنُ لتنميةِ الإنسانِ الحقيقيةِ، إذ بخلقهِ إياهُ على صورتِه، قد أسَّسَ كرامتَهُ المتساميةَ وهو يغذّي رغبتَهُ البُنيويّةَ لـ "يكون أكثر". ليسَ الإنسانُ ذَرَّةً تائهةً في كونٍ عَشوائي (70)، وإنما هو خليقةُ اللهِ، التي أرادَ أن يهبَها نفساً خالدةً والتي أحبَّها على الدوام. لو كانَ الإنسانُ ثمرةَ الصدفةِ أو الضرورةِ وحدَهما، أو لو كانَ عليهِ حدُّ طموحاتِهِ داخلَ إطارِ الأفقِ الضيّقِ الذي يعيشُ فيه، ولو كان الواقعُ بمجملهِ يقتصرُ على التاريخِ والثقافةِ، ولو لم يكن للإنسانِ طبيعةٌ تسعى لتسموَ على ذاتِها نحو حياةٍ فَوطبيعيةٍ، لكانَ يمكننا الحديثُ عن زيادةٍ أو تطورٍ، لا عن تنميةٍ. عندما تُشجِّعُ دولةٌ ما أشكالَ الإلحادِ العمليِّ وتُعلِّمُها أو تفرضُها تَحرمُ مواطنيها منَ القوَّةِ المَعنويةِ والروحيةِ اللازمَتَين للإلتزامِ في العملِ من أجلِ التنميةِ البشريةِ المتكاملةِ، وتمنعُهم من التقدمِ بديناميّةٍ مُتجددةٍ في إلتزامِهم في الاستجابةِ بسخاءٍ أكبرَ للحبِّ الإلهي (71). فالذي يحدثُ هو أن البلدانَ المتقدمةَ أو الناشئةَ إقتصادياً تُصدِّرُ للبلدانِ الفقيرةِ، في إطار أنشطتها الثقافيةِ والتجاريةِ والسياسيةِ، هذه النظرةَ الضيقةَ للشخصِ البشريِّ ولمصيرِه. هذا هو الضررُ الذي يُلحقهُ "الافراط في التنميةِ" (72) بالتنميةِ الأصيلةِ، عندما يكونُ مصحوباً بـ "التخلف  الأخلاقي" (73).

30. بهذه الطريقة، يتَّخذُ موضوعُ التنميةِ البشريةِ المتكاملة نطاقاً أكثرَ تعقيداً: فالعلاقةُ المتبادلةُ بينَ عناصرِهِ المتعدّدةِ تتطلَّبُ إلتزاماً لقيامِ تفاعلٍ بين مختلفِ مستوياتِ المعرفةِ الإنسانيةِ بهدفِ تعزيزِ التنميةِ الحقيقيةِ للشعوب. غالباً ما يُعتبرُ أنَّ تنفيذَ التنميةِ أو إتخاذِ تدابيرَ اجتماعيةٍ/اقتصاديةٍ تتعلقُ بها، لا يحتاجُ سوى إلى العملِ المشتَرك. إلا أن هذا العملَ المشتركَ يحتاجُ لتوجُّهٍ، لأن «كلَّ عملٍ اجتماعيِّ ينطوي على عقيدةٍ ما» (74). فنظراً لتعقيدِ المشاكلِ، من الواضحِ أنه على مُختلفِ التخصُّصات أن تَعمل معاً من خلال أسلوبٍ تشاركيٍّ منظَّم. المحبةُ لا تستبعدُ المعرفةَ، بل تتطلَّبُها وتُعزِّزُها وتحييها من الداخل. فالمعرفةُ لم تكن أبداً مجردَ ثمرةٍ للذكاءِ وحده. طبعاً بإمكانِنا حصرُ المعرفةِ في مجالِ الحساباتِ والتجارب، إلا أنها لا تكونُ حكمةً قادرةً على توجيهِ الإنسانِ على ضوءِ المبادئ الأولى وغاياتِهِ النهائية، إن لم تُطَعَّمْ بملحِ المحبة. فالعملُ يبقى أعمى بدون المعرفةِ والمعرفةُ عقيمةٌ بدون المحبةِ. في الواقع، «إنَّ مَن تحييهِ محبةٌ حقيقيةٌ يبرعُ في اكتشافِ أسبابِ الفقرِ، وفي إيجادِ الوسائلِ لمحاربتِهِ، والقضاءِِ عليهِ نهائياً» (75). لذا فأمامَ الظواهرِ التي تواجهُنا، تتطلّبُ المحبةُ في الحقِّ قبل كلِّ شيءٍ المعرفةَ والفهمَ في إطارِ الوعي والاحترامِ للخبراتِ المحددةِ في كلِّ مستوى من مستوياتِ المعرفة. المحبةُ ليست زائدةً تضافُ في وقتٍ لاحقٍ، كمُلحقٍ لعملٍ تنجزُهُ مختلفُ التخصصاتِ، وإنما أمرٌ عليهِ أن يتفاعلَ مَعها منذُ البداية. فمُتطلّباتُ المحبةِ لا تتعارضُ مع مطالبِ العقل. المعرفةُ البشريةُ لا تكفي، والنتائجُ التي يتوصَّلُ إليها العِلمُ لا يمكنُها وحدَها أن تدلَّ على الطريقِ نحو تنميةِ الإنسانِ المتكاملة. تبقى دائماً الحاجةُ للذهاب إلى أبعدِ من ذلك: هذا ما تتطلَّبُه المحبةُ في الحق (76). الذهابُ أبعدَ من ذلك، لا يعني أبداً تجاهلَ استنتاجاتِ العقلِ أو مناقضةَ نتائجه. المحبةُ لا تتبعُ الذكاءَ كأمرٍ منفصلٍ عنه، بل إنَّ المحبةَ تغتني بالذكاءِ والذكاءَ يمتلئ بالمحبةِ.

31. هذا يعني أنَّه على الأحكامِ الأخلاقيةِ والبحثِ العلميِّ أن ينموا جنباً إلى جنب، وأنه ينبغي للمحبةِ إحياءَهُما بتشاركيّةٍ متناغمةٍ، في وحدةٍ متمايزة. إنَّ عقيدةَ الكنيسةِ الاجتماعيةِ، والتي «يقومُ بينها وبين المعارفِ الأخرى ترابطٌ شديدُ الأهمية» (77)، يمكنها أن تلعبَ، في هذا المجالِ، دوراً ذا فعاليةٍ استثنائية. فهي تتيحُ لكلِّ مِنَ الإيمانِ واللاهوتِ والميتافيزيقيا والعلومِ أن يجدَ مكانهُ في التعاونِ لخدمةِ الانسان. هذا هو المجالُ الأولُ الذي تحقِّقُ فيه عقيدةُ الكنيسةِ الإجتماعية دورَها الحِكَمي. لقد سَبقَ ورأى بولسُ السادسُ بوضوحٍ أن الافتقارَ للحكمةِ والتأملِ والتفكيرِ القادرِ على استخلاصِ المبادئ التوجيهيةِ هو أحدُ أسبابِ التخلُّفِ (78)، ولتحقيقِ ما سبَقَ ذكرُه هناك حاجةٌ «لرؤيةٍ واضحةٍ لجميعِ النواحي الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ والروحية» (79). فالإفراطُ في تجزئةِ المعرفةِ (80)، وانغلاقُ العلومِ الإنسانيةِ تجاه الميتافيزيقيا (81)، والصعوباتُ التي تواجهُ الحوارَ بين العلمِ واللاهوتِ كلُّها أمورٌ مُضرةٌ ليسَ فقط لتطويرِ المعرفةِ، بل لتنميةِ الشعوبِ أيضاً، لأن حدوثَ هذا إنّما يُشكِّلُ حاجزاً يحولُ دونَ رؤيةِ خيرِ الإنسانِ المتكاملِ بمختلفِ أبعادِه. من الضروري إذاً «توسيعُ مفهومِنا للعقلِ وتطبيقاتِهِ» (82) كي نكونَ قادرينَ أن نَزِنَ بشكلٍ سليمٍ جميعَ أوجُهِ مسألةِ التنميةِ وحلِّ المشاكلِ الاجتماعية/الاقتصادية.

32. في كثيرٍ من الحالات تتطلّبُ المستجدّاتُ الكبيرةُ في قضيةِ تنميةِ الشعوب، في أيامنا هذه، إيجادَ حلولٍ جديدة. هذه ينبغي إيجادُها معاً في إطارِ القوانينِ الخاصةِ بكلِّ واقعٍ وذلك في ضوءِ رؤيةٍ متكاملةٍ للإنسانِ، تعكسُ الجوانب المختلفةَ للشخصِ البشري وتنظرُ بعيونٍ طهَّرتها المحبة. عندئذٍ ستُكتَشَفُ توافقاتٌ مهمةٌ وإمكانياتُ حلولٍ ملموسةٍ، من دونِ التخلي عن أي جزءٍ أساسي من الحياةِ الإنسانية.

تقتضي كرامةُ الشخصِ وضروراتُ العدالةِ، خصوصاً في أيّامنا، بألا تزيدَ الخياراتُ الاقتصاديةُ، بشكلٍ مفرطٍ وغيرِ مقبول أخلاقياً، الفوارقَ في الثروةِ (83)، وأن يواصَلَ السعيُ، كأولويةٍ، بهدفِ أن يحصلَ الجميعُ على فرصِ العملِ وعلى استمراريَّته. إذا ما فحصنا الوضعَ عن كثبٍ لوجدنا أنه أمرٌ يقتضيه "المنطقُ الإقتصادي" أيضاً. فزيادةُ التفاوتِ بين الفئاتِ الاجتماعيةِ داخلَ البلدِ الواحدِ وبينَ سُكان مختلفِ البلدان، أي الزيادةُ الهائلةُ للفقرِ بمعناه النسبيّ، لا تميلُ إلى إضعافِ التماسُكِ الاجتماعي – وبالتالي تضعُ الديمقراطيةَ موضعَ الخطر – وحسب، بل لها أيضاً أثرٌ اقتصاديٌّ سلبي، من خلالِ التآكلِ التدريجي لـ "رأسِ المال الاجتماعي"، أي لمجموعةِ العلاقاتِ المبنيةِ على الثقةِ والأمانةِ، واحترامِ القواعدِ الضرورية لكلِّ تعايشٍ مدني.

حتى علمُ الاقتصادِ يُخبرُنا بأنَّ تأصُّلَ حالةِ انعدامِ الأمنِ يولِّدُ مواقفَ ضدَّ الإنتاج ويهدرُ المواردَ البشريةَ، وذلك لأن العمالَ يميلونَ في هذه الحالات إلى التكيُّفِ بسلبيةٍ مع آلياتٍ تلقائيةٍ، بدلاً من الإبداعِ. حولَ هذه النقطة أيضاً هناك تقاربٌ بين علمِ الاقتصادِ والأحكامِ الأخلاقية. إنَّ التكاليفَ البشريةَ هي دائماً تكاليفُ اقتصاديةٌ والإخفاقُ الاقتصادي ينطوي دائماً على تكاليفَ بشريةٍ.

وتجدرُ الإشارةُ أيضاً إلى أنه وإنْ كانَ تسطيحُ الثقافاتِ، في جانبِها التكنولوجي، يعودُ بالربحِ على المدى القريب إلا أنه يعيقُ الإثراءَ المتبادلَ وأساليبَ التعاونِ على المدى البعيد. من المهمِّ إذاً التمييزُ بين الحساباتِ الإقتصاديةِ والاجتماعيةِ القائمةِ على المدى القريب وتلك القائمةِ على المدى البعيد. فتدنّي مستوى حمايةِ حقوقِ العمالِ أو التنازلُ عن آلياتٍ لإعادةِ توزيعِ الدخلِ من أجلِ اكتسابِ المزيدِ من القدرةِ التنافسيةِ الدوليةِ يمنعُ ظهورَ التنميةِ ذاتِ المدى البعيد. لذا يجب أن يُنظَرَ بعنايةٍ في العواقبِ التي تجرُّها على الأشخاصِ الاتجاهاتُ الحاليةُ نحو اقتصادٍ قصيرٍ أو مباشرِ المدى، مما يتطلَّبُ تفكيراً متجدّداً ومعمَّقاً في معنى الاقتصادِ وغاياتِه (84)، بالإضافةِ لإعادةِ نظرٍ عميقةٍ وبعيدةِ المدى لنموذجِ التنميةِ، وذلك لتصحيحِ إخفاقاتِهِ وتشوهاتِه. هذا ما تقتضيه، في الواقع، سلامةُ الوضعِ البيئي لكوكبِنا، كما تقتضيه، قبل كلِّ شيءٍ، أزمةُ الإنسانِ الثقافيةُ والأخلاقيةُ، والتي نجدُ أعراضَها، منذُ فترةٍ طويلةٍ، واضحةَ المعالِمِ في جميعِ أنحاءِ العالم.

33. بعدَ مضيِّ أكثرَ من أربعين عاماً على رسالةِ البابا بولسَ السادسِ "ترقّي الشعوب"، لا يزالُ موضوعُها الأساسيُّ، أي الترقي، يُشكِّلُ مسألةً مفتوحةً، قد غَدَتْ أكثرَ حدةً وإلحاحاً بسببِ الأزمةِ الاقتصاديةِ والماليةِ الراهنة. وإنْ كانَت بعضُ المناطقِ التي أثقَلها الفقرُ في الماضي قد شهدَت تغيراتٍ كبيرةً في مجالِ النمو الاقتصادي والمشاركةِ في الإنتاجِ العالمي، لا تزالُ غيرُها من المناطقِ تعيشُ في حالةٍ من الفقرِ المدقِعِ، تشبهُ تلك التي كانت في زمنِ بولسَ السادس، لا بل يمكننا الحديثُ عن تدهورٍ في بعضِ الحالات. من الجديرِ بالملاحظةِ أن بعضَ أسبابِ هذه الحالةِ قد سبقَ أن حُدِّدَت في رسالةِ "ترقي الشعوب"، مثلَ الرسومُ الجمركيةِ المرتفعةِ التي تفرضُها الدولُ المتقدمةُ اقتصادياً والتي لا تزالُ تمنعُ منتجاتِ الدولِ الفقيرةِ من الوصولِ إلى أسواقُ الدولِ الغنية. وهناك أسبابٌ أخرى قد أَلمَحَتْ إليها رسالةُ البابا ما لبثت أن ظهرتْ بوضوحٍ في وقتٍ لاحق. هذا هو حالُ تقييمِ إنسحابِ الإنتدابِ الأجنبي الذي كان يَحدث في أيام بولس السادس. كان البابا قد دعا إلى مسارٍ مستقلٍ وجَبَ اتخاذُهُ في الحريةِ والسلام. الآن وبعدَ أكثر من أربعين عاماً، علينا أن نعترفَ بصعوبةِ هذه العمليةِ، سواء بسببِ أشكالٍ جديدةٍ من الاستعمارِ والتبعيةِ لهيمنةِ الدولِ القديمةِ والجديدةِ، أو بسببِ جسامةِ اللامسؤوليةِ داخلَ البلدانِ ذاتِها التي نالَتْ استقلالَها.

أمّا المستجَدُّ الرئيسيُّ فكان انفجارُ الترابطِ العالمي، المعروفِ الآن باسمِ العولمةِ. لقد سبقَ لبولسَ السادسِ وتوقّعَها جزئياً، ولكنّ مظاهرَها واندفاعاتِها التي تطورتْ بها لأمرٌ يثيرُ الدهشة. كانت هذه العمليةُ قد نشأَتْ في البلدانِ المتقدمةِ اقتصادياً، وما لبثتْ أن أشركتْ بسببِ طبيعتِها جميعَ الاقتصادات. لقد كانت هي المُحرِّكُ الرئيسيُّ للتخلّصِ من التخلُّفِ في مناطقَ بأكملها، وهي تشكِّلُ في حدِّ ذاتها فرصةً عظيمة. ومع ذلك، في غيابِ التوجيهِ الذي تقدّمهُ المحبةُ في الحقِّ، يمكنُ لهذا الإندفاع العالميّ أن يُسهمَ في خلقِ أخطارٍ وأضرارٍ لم تكن معروفةٌ حتى الآن بالإضافةِ لانقساماتٍ جديدةٍ في الأسرةِ البشرية. لهذه فإنَّ المحبةَ والحقيقةَ يضعان أمامَنا إلتزاماً جديداً وخلاّقاً، وهو بالتأكيدِ واسعٌ جداً وبالغُ التعقيد، يتمثَّلُ في توسيعِ مداركِ العقلِ وجعلِها قادرةً على معرفةِ وتوجيهِ هذه الديناميات الجديدة التي فرَضَتْ نفسَها، وذلك بإحيائها مِن مبدإِ "حضارة المحبة" التي وضعَ اللهُ بذورَها في كلِّ شعبٍ وثقافة.

 

الفصل الثالث

الأخوَّة، التنمية الإقتصادية والمجتمع المدني

 

34. تضعُ "المحبةُ في الحقِّ" الإنسانَ أمام تجربةِ عطاءٍ مدهشة. فالمجّانيةُ موجودةٌ في الحياةِ بأشكالٍ كثيرةٍ، غالباً ما لا نتعرَّفَ عليها بسببِ رؤيتنا للوجودِ من وجهةِ نظرٍ انتاجيةٍ ونفعيةٍ بحتة. فالإنسانُ قد خُلِقَ في سبيلِ العطاءِ وهو بحكمِ وجودِهِ يُعبِّرُ عن تسامي هذا العطاء ويحقّقه. أحياناً يخطئُ إنسانُ العصرِ الحديثِ بإعتقادِهِ أنه الصانعُ الوحيدُ لنفسِهِ وحياتِهِ ومجتمعِه. وهو افتراضٌ ينجُمُ عن التقوقُعِ الأنانيِّ للإنسان على ذاتِهِ، والذي سبَّبَتهُ – إن أردنا أن نستعملَ لغةَ الإيمان – الخطيئةُ الأصلية. ما بَرَحَت حكمةُ الكنيسةِ تلفتُ انتباهنا لأخْذِ الخطيئةِ الأصليةِ بعينِ الاعتبارِ في تفسيرِ الوقائعِ الاجتماعيةِ وبناءِ المُجتمع: «فتجاهُلُ حقيقةِ طبيعةِ الإنسانِ الجريحةِ والميّالةِ للشرِّ، يسبِّبُ أخطاءً جسيمةً في مجالِ التعليمِ والسياسةِ والعملِ الاجتماعي والأخلاق» (85). هكذا قد أُضيفَ الإقتصادُ إلى قائمةِ المجالاتِ التي تظهرُ فيها الآثارُ الضارةُ الناجمةُ عن الخطيئة. لدينا أدلةٌ قويةٌ على هذا في الأزمنةِ الراهنة أيضاً. إن القناعةَ بالاكتفاءِ الذاتي، وفي القدرَةِ على القضاءِ على الشرِّ الموجودِ في التاريخ مِن خلالِ الأفعالِ البشريةِ وحدَها أدَّت بالإنسانِ ليعتقدَ بأنَّ السعادةَ والخلاصَ يتحققانِ بالرفاهِ الماديّ والعملِ الاجتماعي. ومن ثم فالقناعةُ بضرورةِ الاستقلالِ التامِّ للاقتصادِ بحيثُ لا يقبلُ أيَّ "نفوذٍ" أخلاقيّ، قد دَفَعَ الإنسانَ إلى الإستخدامِ السيءِ للأداةِ الإقتصاديةِ بل وحتى بأشكالٍ مدمِّرة. مع مرورِ الوقتِ، أدَّت هذه المعتقداتُ إلى نظمٍ إقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ انتهكتْ حريةَ الأفرادِ والهيئاتِ الاجتماعية، ولهذا السببِ بالتحديد، لم تكنْ هذهِ القناعاتُ قادرةً على ضمانِ العدالةِ التي وعَدَت بها. هذا ما أكدتُّهُ في رسالتي العامة السابقة "بالرجاء مُخلَّصون". وبهذه الطريقةِ يُزالُ الرجاءُ المسيحي مِن التاريخ (86)، بالرغمِ من كونِهِ ثروةً اجتماعيةً هائلةً في خدمةِ التنميةِ البشريةِ المتكاملة، التي يُسعى إلها بالحريةِ والعدالةِ. فالرجاءُ يُشجِّعُ العقلَ ويعطيهِ قوةً لتوجيهِ الإرادةِ (87). وهو موجودٌ في الإيمانِ، لا بل ينجمُ عنه. منه ترتوي المحبةُ في الحقِّ وبها يغدو جليّاً. والرجاءُ لكونِهِ هبةٌ من اللهِ مُطلقةُ المجانيةِ، يخترقُ حياتَنا بوصفِهِ أمرٌ غيرُ مستحَقٍّ، ويسمو على كلِّ قوانينِ العدالة. فالهبةُ تتجاوزُ بحكمِ طبيعتِها أي استحقاقٍ، والفيضُ هو شريعتُها. وهي تسبقُنا لوجودِها في نفوسِنا كعلامةٍ لوجودِ الله فينا ولما ينتظرُه منّا. والحقيقةُ، التي هي هبةٌ على غرارِ المحبة، لأعظمُ منّا بكثيرٍ، كما يُعلِّمنا القديس أوغسطينوس (88). لا بل حتى حقيقةِ ذواتِنا، وحقيقةِ ضميرِنا الشخصي، هي قبلَ كلِّ شيء هبةٌ قد أعطيَت لنا. ففي أي مسيرةٍ معرفيةٍ لا تكونُ الحقيقةُ من نتاجنا، لا بل هي دائماً موضوعُ اكتشافٍ، أو بالأحرى موضوعُ اقتبال. إنها كالمحبةِ «ليست وليدةَ الفكرِ والارادةِ، بل تفرضُ نفسها، بشكلٍ من الأشكالِ، على البشر» (89).

وبما أن المحبةَ في الحقِّ هبةٌ نتلقّاها فهي قوةٌ تشكلُ الجماعةَ، وتوحِّدُ البشرَ بطرقٍ ليس فيها حواجزُ أو حدود. يُمكننا نحنُ البشرُ أن نشكِّلَ جماعةً، لكن جماعةً كهذه لا يمكنها قَط أن تكونَ بقواها الخاصة جماعةً أخويةً بالكامِل، أو أن تتجاوزَ كلَّ الحدودِ لتصبح جماعةً عالميةً: فوحدةُ الجنس البشري والشركةُ الأخويةُ التي تتخطّى جميعَ الإنقساماتِ تنشآن بفضلِ دعوةِ كلمةِ الله، الذي هو محبة، لجمعِ شمْلِ البشر. في مواجهةِ هذه القضيةِ الحاسمةِ، نحتاجُ لنوضحَ أولاً أن منطقَ العطاءِ لا يستبعدُ العدالةَ ولا يُحاذيها كمُلحقٍ خارجيّ، وثانياً، إن أردْنا للتنميةِ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أن تكونَ إنسانيةً بأصالةٍ، علينا أن نفسَحَ المجالَ لمبدإ المجّانيةِ كتعبيرٍ عن الأخوَّة.

35. عند توفُّرِ الثقةِ المتبادلةِ والمعمَّمَة، يغدو السوقُ المؤسسةَ الاقتصاديةَ التي تتيحُ اللقاءَ بين الناسِ كتُجَّارٍ يَستخدمونَ العقدَ كقاعدةٍ للعلاقةِ فيما بينهم ويتبادلون السلعَ والخدماتِ تلبيةً لاحتياجاتِهم ورغباتِهم. ويخضعُ السوقُ لمبادئ ما يسمى بالعدالة التبادلية، التي تنظِّمُ علاقةَ المقايضةِ بين الأقران. إلا أنَّ عقيدةَ الكنيسةِ الاجتماعيةِ قد أكَّدَت باستمرارٍ أهميةَ العدالةِ التوزيعيّةِ والعدالة الاجتماعيةِ لإقتصادِ السوق ذاتِهِ، وهذا ليسَ فقط لأنها جزءٌ لا يتجزأ من شبكةٍ أوسعَ نطاقاً في السياقِ الاجتماعي والسياسي، ولكن لأجل شبكةِ العلاقات التي تتحققُ فيها أيضاً. فإن اكتفى السوقُ بمبدإ التكافؤ بين قيمةِ السلعِ التجاريةِ سيعجزُ عن إحداثِ التماسكِ الاجتماعي الذي يحتاجُهُ هو أيضاً ليعملَ بشكلٍ صحيح. من دونِ أشكالِ التضامنِ الداخلي والثقةِ المتبادلة لا يمكن للسوقِِ إكمالُ تنفيذِ مهمَّتِه الاقتصادية. هذه الثقة قد فُقِدَت في أيّامنا وفقدانها هو خسارةٌ فادحة.

لقد شدَّدَ البابا بولس السادس بشكلٍ مناسبٍ في رسالتِهِ "ترقي الشعوب" على أنَّ النظامَ الاقتصادي نفسَه سوفَ يستفيدُ مِن تعميمِ ممارسةِ العدالةِ، باعتبارِ أنَّ أولَ مَن يستفيدُ مِن تنميةِ البلدانِ الفقيرةِ هي البلدانُ الغنيةُ ذاتُها (90). الأمرُ لا يقتصرُ على إصلاحِ الخلَلِ من خلالِ تقديمِ المساعدات. فينبغي ألا يُعتَبرَ الفقراءُ بمثابةٍ "عبء" (91)، بل بمثابةِ "مواردَ" حتى وإن اتّخذنا وجهةَ نظرٍ اقتصاديةٍ بحتة. ومع ذلك، يُخطِئُ مَن يعتقدُ أنَّ هيكليةَ اقتصادِ السوقِ تحتاجُ لحصةٍ من الفقرِ والتخلُّفِ من أجلِ انتاجٍ أفضل. فمِن مصلحةِ السوقِ تعزيزُ التحرُّرِ، لكن لتحقيقِ هذا الهدف لا يمكنُ للسوقِ الاعتمادُ على نفسِهِ فحسب، لأنه غيرُ مؤهَّلٍ لأن يُنتِجَ لنفسِهِ ما يتجاوزُ إمكانياتِه. لذا فلا بُدَّ له من استخلاصِ طاقاتٍ معنويةٍ من كياناتٍ أخرى قادرةٍ على منحِها.

36. لا يمكن للنشاطِ الاقتصادي أن يحلَّ جميعَ المشاكلَ الاجتماعيةَ ببساطةٍ عن طريقِ توسيعِ نطاقِ المنطق التجاري. فهذا المنطقُ يجب أن يُوجَّه لتحقيقِ الخيرِ العام، الذي يجب أن تتحملَ أعباءَهُ الجماعةُ السياسيةُ أيضاً، لا بل هي قبلَ الجميع. لذا، ينبغي أن يؤخَذَ بعينِ الاعتبارِ أنَّ الفصلَ بين النشاطِ الإقتصادي – الذي يُرادُ له إنتاجُ الثروة لا غير – والنشاطِ السياسيِّ المعنيِّ بالسعي لتطبيقِ العدالةِ من خلالِ إعادةِ توزيعِ الثروةِ، لأمرٌ يسبِّبُ خطورةَ التفكُّك.

لقد اعتبرَت الكنيسةُ دائماً أنه لا ينبغي أن يُنظَرَ إلى النشاطِ الاقتصادي كأمرٍ معادٍ للمجتمع. لذا على السوقِ ألا يكونَ مجالاً فيه القويُّ يغلبُ الضعيف. ليس على المجتمعِ أن يحميَ نفسَه من السوقِ، كما لو كان هذا يُهدِّدُ تلقائياً العلاقاتِ الإنسانيةَ الأصيلة. من المؤكَّد أنَّ السوقَ يمكنُ أن يوجَّهَ بطريقةٍ سلبيةٍ، لكن هذا ليسَ بسببِ طبيعتِهِ، بل لأنه يُمكنُ لأيديولوجيةٍ معينةٍ أن تقودَهُ في هذا الإتجاه. يجبُ ألا ننسى أنه لا وجودَ لسوقٍ مُجرَّد. فهو يتَّخِذُ شكلَه من الأنماطِ الثقافيةِ التي تحدِّدُه وتوجِّهُه. فالإقتصادُ والتمويلُ، لكونِهِما أداتان، يمكنُ أن يساءَ استخدامُهما عندما يُديرُهُما مَن لا تحكُمُهُ سوى الأنانيةُ. فينجحُ في تحويلِ أدواتٍ صالحةٍ في حدِّ ذاتها وجعلِها ضارةً. لكنَّ عقلَ الإنسانِ المُظلمِ هو مَن يأتي بهذه العواقِبِ، وليست الأدواتُ في حدِّ ذاتها. لهذا ليست الأداةُ موضوعَ اهتمامِنا بل الإنسان، وضميرُهُ ومسؤوليتُهُ الشخصيةُ والاجتماعية.

تعتقدُ عقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعية بأنه يمكنُ عيشُ علاقاتٍ إنسانيةً أصيلةً، كالصداقةِ والمؤآنسةِ والتضامُنِ والمعاملةِ بالمِثْلِ، حتى ضمنَ النشاطِ الاقتصادي، وليس فقط خارجَه أو "بَعدَهُ". فالمجالُ الاقتصاديُّ ليس مُحايداً أخلاقياً ولا يتّسمُ بطبيعةٍ لاإنسانيةٍ ومعاديةٍ للمجتمع. بل ينتمي إلى الأنشطةِ البشريةِ، ولكونِهِ بشرياً يجبُ أن يكونَ منظماً ومؤسَّساً أخلاقياً.

أمّا التحدي الكبيرُ الذي تطرحُهُ أمامَنا مشاكِلُ التنميةِ في عصرِ العولمةِ وزادَت حِدَّتَهُ الأزمةُ الاقتصاديةُ والماليةُ، هو أن نُظهرَ، في الفكرِ والسلوكِ على حدٍّ سواء، بأنه ليسَ فقط لا يمكنُ تجاهلُ أو تخفيفُ المبادئِ التقليديةِ للأخلاقِ الاجتماعية، مثل الشفافيةِ والنزاهةِ وحسِّ المُسؤولية، لا بل أنَّ في العلاقاتِ التجاريةِ يبقى على مبدإ المجانيةِ ومنطقِ العطاءِ – كتعبيرٍ عن التآخي – الواجبُ والقدرةُ ليجدا مكانَهما في إطارِ الأنشطةِ الاقتصاديةِ اليومية. هذا هو مطلبُ الإنسانِ في وقتِنا الحاضرِ، ولكنه أيضاً مطلبُ المنطقِ الاقتصادي نفسِه. إنه مطلبُ المحبةِ والحقِّ في آن واحد.

37. لقد رأتْ عقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعيةِ على الدوامِ أنه ينبغي للعدالةِ أن تُطبَّقَ على جميعِ مراحِلِ النشاطِ الاقتصادي، وذلك لأنه أمرٌ يتعلّقُ بالإنسانِ واحتياجاتِه. فالعثورُ على المواردِ والتمويلُ والإنتاجُ والاستهلاكُ وغيرُها من جميعِ مراحلِ الدورةِ الاقتصاديةِ لها حتماً طابعٌ أخلاقي. فلكلِّ قرارٍ اقتصادي أثرٌ على الصعيدِ الأخلاقي. هذا ما تؤكّدهُ العلومُ الإجتماعيةُ واتجاهاتُ الاقتصادِ المعاصر. في الماضي ربما كان هناك تصوُّرٌ بأن يُعهَدَ إلى الإقتصادِ إنتاجُ الثروةِ ليتمَّ بعد ذلك إسنادُ مهمةِ توزيعِها للسياسةِ. أمّا اليومَ فالأمورُ تبدو أكثرَ صعوبةً، وهذا لأن الأنشطةَ الاقتصاديةَ لم تَعُد مقيدةً بالحدودِ الإقليميةِ، في حينِ أن سُلطَةَ الحكومةِ لا تزالُ محلِّية. لهذا وجبَ احترامُ شرائعِ العدالةِ منذ البدايةِ، أي خلالَ العمليةِ الاقتصاديةِ، وليس بَعدها أو بموازاتِها. وعلاوةً على ذلك، ينبغي أن يُفسحَ المجالُ في السوقِ للأنشطةِ الاقتصاديةِ التي يقومُ بها أفرادٌ يختارونَ بحريَّتِهم أن يعملوا وفقَ مبادئ مختلفةٍ عن تلك التي تستهدفُ الربحَ المحضَ، دون أن يضطرّوا للتخلي عن إنتاج قيمةٍ اقتصادية. إن أنماطاً عديدةً من المبادراتِ الاقتصاديةِ الدينيةِ والعَلمانية، تدلُّ على أن هذا الأمرَ ممكنٌ عملياً.

في عصرِ العولمَةِ، يُعاني الاقتصادُ من نماذجَ تنافسيةٍ مرتبطةٍ بثقافاتٍ تختلفُ كثيراً فيما بينها. لذا فالسلوكياتُ الاقتصاديةُ والتجاريةُ الناجمةُ عنها يمكنها أن تلتقي، بشكلٍ رئيسي، في احترامِ العدالةِ التبادلية. طبعاً تحتاجُ الحياةُ الاقتصاديةُ إلى العقودِ لضبطِ علاقاتِ التبادلِ بين القيمِ المتكافئة. لكنها تحتاجُ أيضاً إلى قوانينَ عادلةٍ وأشكالٍ لإعادةِ توزيعِ الخيراتِ تقودُها السياسيةُ، بالإضافةِ لأعمالٍ تحملُ في طيّاتِها روحَ العطاء. يبدو أنَّ الاقتصادَ المُعَولَم يُغَلِّبُ المنطقَ الأول، أي منطقَ تبادلِ العقودِ، إلا أنه بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ يبرهِنُ حاجَتَه أيضاً إلى المَنطقَين الآخرَين، أي المنطقَ السياسي ومنطقَ العطاءِ المجّاني.

38. لقد سبقَ لسلفي البابا يوحنا بولس الثاني وذكرَ هذه المسألةَ في رسالتِهِ العامة "السنة المئة"إذ أشارَ إلى الحاجةِ لنظامٍ ثلاثيِّ الأبعاد: السوق والدولة والمجتمع المدني (92). كانَ قد رأى في المجتمعِ المدنيّ المجالَ الأنسبَ لإقتصاد المجّانيةِ وللتآخي، ولكنه لم يكن يقصدُ بهذا إنكارَ هذه الأشياء في المجالَين الآخرَين. اليوم نستطيعُ أن نقولَ بأنَّه ينبغي فهمَ الحياةِ الاقتصاديةِ كواقعٍ متعددِ الأبعاد: في كلٍّ بُعدٍ منها، وبدرجاتٍ متفاوتةٍ وبطرقٍ خاصةٍ، يجبُ أن يتواجَدَ التآخي المتبادَل. في عصرِ العولمةِ هذا، لا يمكنُ فصلَ النشاطِ الاقتصادي عن المجّانيةِ التي تنشُرُ وتعزِّزُ، في المَعنيِّينَ به، التضامنَ والمسؤوليةَ لتحقيقِ العدالةِ والخيرِ العام. إنه، في نهايةِ المطاف، نوعٌ ملموسٌ وعميقٌ من أنواعِ الديمقراطيةِ الإقتصادية. فالتضامنُ هو، فوقَ كلِّ شيء، أن يشعرَ الجميعُ بالمسؤوليةِ تجاهَ الجميع (93)، لذا لا يمكنُ أن يفوَّضَ إلى الدولةِ وحدَها. وبينما كانَ يُفترَضُ بالأمسِ أنه علينا أولاً السعيُ لتحقيقِ العدالةِ بينما تتدخَّلُ المجّانيةُ في وقتٍ لاحقٍ، اليومَ لا بدَّ أن نقولَ بأنه مِن دونِ المجانيةِ ليسَ بالإمكانِ حتى تحقيقُ العدالة. نحتاجُ إذاً إلى سوقٍ حيثُ يمكنُ لشركاتٍ ذاتِ غاياتٍ مؤسَّساتيةٍ مختلفةٍ أن تعملَ بحريةٍ، في ظلِّّ فرصٍ متساوية. فإلى جانبِ الشركاتِ الخاصةِ التي تسعى وراءَ الربح، ومختلفِ الشركاتِ العامةِ، ينبغي أن تتجذَّرَ وتعبِّرَ عن ذاِتها تلك المنظماتُ ذاتِ الأهدافِ التعاونيةِ والاجتماعية. بفضلِ المقارنةِ المتبادلةِ فيما يخصُّ السوقَ يمكنُ أن نتوقَّعَ نوعاً من التهجينِ لتعاملِ الشركات، وبالتالي الاهتمامَ بتحضُّرِ الاقتصاد. المحبةُ في الحقِّ، تعني في هذه الحالةِ، أنه يجبُ تشكيلُ وتنظيمُ تلكَ المبادرات الاقتصاديةِ التي تهدفُ، دون أن تُنكرَ الربحَ، إلى تجاوزِ منطقِ تبادلِ السلعِ المتكافئةِ والسعي وراءَ الأرباح لذاتها.

39. لقد طالبَ البابا بولسُ السادس في رسالتِهِ العامة "ترقي الشعوب" بإقامةِ نموذجِ اقتصادِ سوقٍ قادرٍ، أقلَّهُ في توجّهاته، على احتواءِ جميع الشعوبِ وليس فقط تلكَ المجهَّزةَ على نحو مناسب. كما طالبَ بالإلتزامِ في تعزيزِ عالمٍ أكثرَ إنسانيةٍ للجميعِ على حدٍّ سواء، عالمٍ فيه لكلِّ فردٍ «شيءٌ يعطيهِ وشيءٌ يقبلُهُ، من دونِ أن يكونَ تقدُّمُ البعضِ عقبةً في سبيلِ تنميةِ الآخرين» (94). بهذا كان يقصدُ تعميمَ المَطالبِ والطموحاتِ الواردةِ فيرسالةِ البابا لاون الثالث عشر "الشؤون الحديثة"، والتي كُتِبَت عندما بَرَزَت للمرةِ الأولى، نتيجةَ الثورةِ الصناعيةِ، الفكرةُ التقدّميَّةُ آنذاك والقائلةُ بأنهُ لتحقيقِ استقرارِ النظامِ المَدَني هناك حاجةٌ لتدخُّلِ الدولةِ في إعادةِ توزيعِ الثروات. أمّا اليوم فهذه الرؤيةُ، فضلاً عن كونِها في أزمةٍ من جراءِ عمليةِ انفتاحِ الأسواق والمجتمعات، لا تبدو كافيةً لتلبيةِ احتياجاتِ اقتصادٍ إنسانيٍّ كامل. فما كانت تؤكّدُهُ بإستمرارٍ عقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعية إنطلاقاً من رؤيتِها للإنسانِ والمجتمع، يُطلَبُ اليومَ مِن الخصائصِ الحيويةِ للعولمةِ أيضاً.

عندما يتَّفِقُ مِنطقُ السوقِ ومنطقُ الدولةِ معاً للاستمرارِ في احتكارِ مجالاتِ تأثيرِ كلٍّ منهما، يتضرَّرُ – على المدى الطويل – التضامنُ في علاقاتِ المواطنينَ والمشاركةُ والإلتزامُ والمبادراتُ المجّانيةُ والتي هي أمورٌ تختلفُ عن "العطاءِ في سبيلِ الأخذ" الذي يخصُّ منطقَ المقايضة، وعن "العطاءِ بدافعِ الواجب" الذي يخصُّ منطقَ السلوكياتِ العامةِ التي يفرضُها قانونُ الدولة. إنَّ الانتصارَ على التخلُّفِ لا يتطلَّبُ اتخاذَ إجراءاتٍ لتحسينِ التعاملاتِ القائمةِ على أساسِ التبادلِ وحَسب، أو إقامةَ مرافقَ رعايةٍ ذاتِ الطابعِ العامّ، بل يتطلَّبُ قبلَ كلِّ شيءٍ العملَ في سبيلِ انفتاحٍ تدريجيٍّ – على المستوى العالمي – نحو أشكالٍ من النشاطِ الاقتصادي تتَّسِمُ بمقدارٍ من المجّانيةِ والتشاركية. فإستمرارُ ثنائيةِ السوقِ/الدولةِ التي تستبعدُ أيَّ مجالٍ آخر يؤدي إلى تدهورِ العلاقاتِ الاجتماعية، بينما تخلقُ الأشكالُ الاقتصاديةُ التضامنيةُ – التي تجدُ أفضلَ تربةٍ لها في المجتمعِ المدني من دون أن تقتصرَ عليه – علاقاتٍ اجتماعية. بالرغمِ من عدمِ وجودِ سوقٍ مجّانيةٍ وبالرغمِ من عدمِ إمكانيةِ وضعِ قوانينَ تفرضُ المجّانيةَ، يبقى السوقُ والسياسةُ بحاجةٍ لأشخاصٍ منفتحينَ على العطاءِ المتبادل.

40. تتطلَّبُ الدينامياتُ الاقتصاديةُ الدوليةُ الحاليةُ، التي تتسمُ بتشوهاتٍ واختلالاتٍ جسيمةٍ، تغييراتٍ عميقةً في رؤيتِها للمشاريع. هناكَ أساليبُ عملٍ قديمةٌ في طريقِها للزوالِ وغيرُها واعدةٌ تلوحُ في الأفق. يكمنُ أحَّدُ المخاطرِ الرئيسيةِ في جعلِ المشاريعَ تخدُمُ حصرياً مصالحَ مستثمريها فينتهي بهم الأمرُ للتقليلِ من قيمتِها الاجتماعية. لقد سبَّب نموُّ حجمِ رؤوسِ المال والحاجةُ الدائمةُ لمزيدٍ منها، لتناقصِ عددِ الشركاتِ التي تُدارُ مِن قِبَلِ مقاولٍ ثابتٍ يشعُرُ بالمسؤوليةِ تجاهَ سيرِ مشروعِهِ ونتائجِهِ ليسَ على المدى القصيرِ فحسب بل على المدى الطويلِ أيضاً، بالإضافةِ إلى تناقصِ عددِ الشركاتِ المعتَمِدة على إقليمٍ واحد. كما يقومُ ما يُعرَف اليومَ بـ "نقلُ الإنتاج إلى الخارج" بتخفيفِ شعورِ المقاوِلِ بالمسؤوليةِ تجاه أصحابِ المصلحةِ مثل العُمَّال والمورِّدين والمستهلِكين والبيئةِ والمجتمعِ الأوسعِ من حولِهم، ما يعودُ بالنفعِ على المساهِمين، غيرِ المرتبطين بمكانٍ محددٍ، والمتمتِّعينَ بالتالي بإمكانيةِ تنقُّل غيرِ عادية. فالسوقُ الدولي لرؤوسِ المال، يُقدِّم اليومَ حريةً كبيرةً للعمل. إلا أنه صحيحٌ أيضاً بأنَّ الوعيَ بالحاجةِ لتوسيعِ "المسؤوليةِ الاجتماعية" للشركاتِ هو في ازديادٍ مطَّرِد. وبالرغمِ من أن النّهجَ الأخلاقيةَ التي تدفعُ اليومَ النقاشَ حولَ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ للشركاتِ ليست كلُّها مقبولةً من منظورِ عقيدةِ الكنيسةِ الاجتماعية، إلا أنَّ الواقعَ ينطوي على إزديادِ القناعةِ بأنه لا يمكنُ لإدارةِ الشركاتِ أن تأخذَ بعين الاعتبارِ مصالحَ مالكيها فقط، بل عليها أيضاً أن تتحملَ مسؤوليةَ جميعِ الفئاتِ الأخرى من الأشخاصِ الذين يساهمون في سيرِها: العمّالُ والزبائنُ ومورِّدو مختلفِ عوامِلِ الإنتاجِ والمجتمعُ الذي ينتمون إليه. لقد لوحظَ في السنوات الأخيرة نموُّ طبقةٍ عالميةٍ من المُدراء، التي غالباً ما تستجيبُ فقط لأوامِرِ المساهمين الرئيسيين، المؤلَّفين عادةً مِن أموالٍ مجهولةِ المصدر، تقومُ هي عملياً بتحديدِ الأجور. مع ذلك هناك حالياً العديدُ من المدراءِ الذين ينتبهونَ على نحوٍ متزايدٍ، بفضلِ تحليلٍ بعيد النظر، للعلاقاتِ الوثيقةِ التي تجمعُ شركتَهم مع المنطقةِ، أو المناطِقِ، التي تعملُ في ظلِّها. لقد دعا بولسُ السادسُ إلى النظرِ بجديةٍ في الضررِ الذي يسبِّبُهُ للبُلدانِ نقلُ الأموالِ إلى الخارجِ، في سبيلِ تحقيقِ المنفعةِ الشخصيةِ الخالصة (95). ونبَّهَ يوحنا بولسُ الثاني بأن للإستثمارِ دائماً معنى أخلاقياً، عدا عن المعنى الاقتصادي (96). ينبغي إعادةُ التأكيدِ أنَّ كلَّ هذا لا يزالُ صالحاً في أيّامنا، بالرغمِ من أن سوقَ رؤوسِ المالِ قد تحرَّرَ بشكلٍ كبيرٍ والعقليةُ التكنولوجيةُ الحديثةُ يمكنُ أن تدفعَ للإعتقادِ بأن الاستثمارَ ليس سوى أمرٍ تقني ولا علاقةَ له بالإنسانيةِ والأخلاق. ليس هناك من سببٍ ينفي أن يكونَ استثمارُ رأسِ مالٍ معينٍ في خارجِ الوطنِ أمراً يعودُ بالخير. لكن يجب أن يخضعَ هذا لقيودِ العدالةِ، مع الأخذِ بعين الاعتبارِ مَصادرَ رأسِ المالِ هذا والأضرارَ التي سيسبّبُها للناسِ عدمُ استثمارِهِ في أماكِنِ نشوئِه (97). يجبُ تلافي أن تكونَ المُضاربةُ هي السببُ في استخدامِ الموارِدِ الماليةِ، وأن يُستسلَمَ لإغراءِ السعي وراءِ الربحِ قصيرِ الأجلِ فقط، دون الأخذِ بعينِ الإعتبارِ استدامةَ الشركةِ على المدى الطويلِ وخدمتَها الدقيقةَ للإقتصادِ الحقيقي والتنبُّهَ لتعزيزِ الأنشطةِ التجاريةِ في البلدانِ المحتاجَةِ لتطويرٍ بشكلٍ كافٍ وملائم. لكن لا يوجدُ سببٌ لإنكارِ أن عمليةَ نقلِ الإنتاجِ إلى الخارجِ، عندما تجلبُ الاستثمارَ والتدريبَ، يمكنها أن تحملَ الخيرَ لشعبِ البلدِ المُضيف. العملُ والمعرفةُ التقنيةُ هما حاجةٌ عالمية. لكن لا يجوزُ النقلُ لمجرَّدِ الإستفادةِ من ظروفٍ مواتيةٍ أو لِما هو أسوأُ من ذلك أي استغلالُ الآخرين، من دونِ مساهمةٍ حقيقيةٍ في مساعدةِ المجتمعِ المحلّي لظهورِ نظامٍ إنتاجيّ قوي كعاملٍ ضروري لتنميةٍ مستقرّة.

41. في هذا السياق من المهمِّ الإشارةُ إلى أن معنى عملِ المشاريعِ يجب أن يتّخذَ، على نحوٍ متزايدٍ، قيماً متعدِّدة. لقد اعتدْنا، بسببِ استمرارِ انتشارِ ثنائيةِ السوق/الدولة، على التفكيرِ حصراً بصاحبِ المشروعِ الرأسمالي من جهةٍ وبتوجيهِ الدولةِ لهُ من جهةٍ أخرى. في الواقع، يجبُ فهم المشاريعَ بطريقةٍ مفصَّلة. وهذا يتَّضحُ بفضلِ مجموعةٍ من الدوافِعِ التي تتجاوزُ الإقتصادَ في حدِّ ذاته. فتنظيمُ المشاريعِ له معنى إنسانياً قبل معناهُ المهني (98). إذ يطالُ كلَّ عملٍ باعتباره "فعلٌ شخصيٌّ" (99)، ولذلك فإنه لأمرٌ جيدٌ أن تُعطى لكلِّ عاملٍ الفرصةُ ليقدِّمَ مساهمتَه بطريقةٍ «يعي بها أنه يعملُ "لنفسه"» (100). ليسَ من قَبيل الصدفةِ أنَّ يُعلِّّمَ البابا بولسُ السادسُ بأن «كلَّ عاملٍ هو مبدع» (101). ففي سبيلِ تلبيةِ متطلّباتِ وكرامةِ العُمّال بالإضافةِ لاحتياجاتِ المجتمعِ، هناكَ عدةُ أنواعٍ من المشاريعِ تتخطّى مجرَّدَ التمييزِ بين "مشاريعَ خاصة" و "مشاريعَ عامة". كلُّ واحدٍ منها يتطلَّبُ مهاراتٍ تنظيميةٍ معيّنةٍ ويُعبِّرُ عنها. فمن أجلِ تحقيقِ اقتصادٍ يخدمُ – في المستقبلِ القريبِ – الخيرَ العامَّ على الصعيدَين الوطني والعالمي، من المناسبِ أن يؤخَذَ في عينِ الاعتبارِ هذا المعنى الواسِعَ للمشاريع. يُشجِّعُ هذا المفهومُ الأوسعُ مختلفَ أنواعِ المشاريعِ على التبادُلِ والتعلُّم المشترَك فيما بينها، مع نَقلِ الكفاءاتِ من "عالمِ اللا ربحِ" إلى "عالمِ الربح" والعكسُ بالعكس، كما مِن القطاعِ العام إلى المجتمعِ المدني، ومن الاقتصاداتِ المتقدِّمةِ إلى اقتصاداتِ البُلدانِ النامية.

حتى للسُلطَةِ السياسيةِ معنى متعدِّد القِيم لا يمكن نسيانُه عند الشروعِ في بناءِ نظامٍ اقتصادي/انتاجي جديدٍ، يتحمَّلُ المسؤوليّةَ الاجتماعية ويناسبُ الإنسان. فكما يُرادُ دعمُ المشاريع المتنوّعةِ الإختصاصِ عالمياً، يجبُ تعزيز سُلطةٍ سياسيةٍ موزَّعةٍ وفاعلةٍ على عدةِ مستويات. إنَّ الإقتصادَ المُتكامِلَ في عصرِنا لا يلغي دورَ الدول، وإنما يتطلَّبُ من الحكوماتِ تعاوناً مشتركاً قوياً. لذا من الحِكمة والتعقُّلُ عدمُ التسرُّعِ في إعلانِ نهايةِ دورِ الدولة. فبالنسبةِ لحلِّ الأزمةِ الراهنةِ، يبدو أن دورَها يتجهُ نحو النموِّ عن طريقِ استعادتِها للعديدِ من صلاحياتِها. كما أنَّ هناكَ أمماً لا يزالُ بناءُ دولتِها أو إعادةُ بناءها يشكِّلُ عنصراً أساسياً في تنميتها. لذا على المساعداتِ الدولية التي تدخلُ في إطارِ مشروعٍ تضامنيٍّ يهدفُ إلى حلِّ المشاكلِ الاقتصاديةِ الحاليةِ أن تَدعمَ توطيدَ الأنظمةِ الدستوريةِ والقانونيةِ والإداريةِ في البلدانِ التي ما زالت تَفتقرُ لهذه الأمور. إلى جانِبِ المساعداتِ الاقتصاديةِ، يجبُ وجودُ مساعداتٍ تهدِفُ إلى تعزيزِ ضماناتِ دولةِ القانون، أي نهجُ نظامٍ عام وسجونٍ فعّالةٍ تحترمُ حقوقَ الإنسان، ومؤسساتٌ ديمقراطيةٌ حقيقية. ليس من الضروري أن يكونَ للدولةِ الخصائصُ نفسُها في كلِّ مكان: إنَّ تقديمَ الدعمِ للنُظُمِ الدستوريةِ الضعيفةِ في سبيلِ تقويتِها يمكنُه أن يترافَقَ مع تنميةِ جهاتٍ سياسيةٍ فاعلةٍ أخرى إلى جانِبِ الدولةِ، أي جهاتٍ ذات طابعٍ ثقافي واجتماعي وإقليمي أو ديني. إنَّ توزيعَ السياساتِ على المستوياتِ المحليةِ والوطنيةِ والدولية، هو أحَّدُ الطُرُقِ السريعةِ للوصولِ إلى إمكانيةِ توجيهِ العَولمةِ الاقتصادية. بل هو أيضاً وسيلةٌ لتجنُّبِ تهديدِها لأسُسِ الديمقراطية.

42. أحياناً هناكَ مواقفُ تنظرُ للعولمةِ وكأنّها قضاءٌ محتوم، وكما لو كانت ديناميّاتُها الحالية من إنتاجِ قوى مجهولةِ ولاشخصيةٍ وبُناها مستقلّةٌ عن إرادةِ الإنسان (102). يجدُرُ التذكيرُ هنا بأنه علينا طبعاً أن نفهَمَ العولمةَ كنهجٍ اجتماعي/اقتصادي، لكن ليس هذا هو بُعدَها الوحيد. فخلفَ ما يظهرُ من هذا النهجِ هناكَ واقعُ البشريّةِ التي تترابطُ على نحوٍ متزايد؛ وهي المؤلَّفةُ مِن الأشخاصِ والشعوبِ التي ينبغي أن يخدمَها وينمّيها واقعُ نهجِ العولمةِ هذا (103)، من خلال تحمُّلِ كلٍّ من الأفرادِ والمجتمعِ للمسؤولياتِ الملقاةِ على عاتقهم. فليسَ تجاوزُ الحدودِ مجردَ واقعٍ مادي، وإنما ثقافي أيضاً في أسبابِهِ وآثارِه. فإذا ما فسَّرنا العولمةَ كقضاءٍ محتومٍ فقَدْنا المعاييرَ اللازمة لتقييمِها وتوجيهِها. العولمةُ واقعٌ بشريّ ينتجُ عن مختلفِ التوجُّهاتِ الثقافيةِ التي ينبغي أن تخضعَ للتمحيص. تتأتّى حقيقةُ نهجِ العولمةِ ومعيارِه الأخلاقي الأساسي من وحدةِ الأسرةِ البشريةِ ونموِّها في الخير. لذا فهناكَ حاجةٌ لجهدٍ متواصلٍ لتعزيزِ توجُّهِ نهجِ الاندماجِ العالمي نحو ثقافةٍ شخصانيّة وجماعيّة، منفتحة على المُتساميات.

على الرغمِ من بعضِ أبعادِها البُنيويةِ التي لا ينبغي نكرانُها ولا حتى اعتبارِها مُطْلَقةً، «ليست العولمةُ، من وجهةِ نظرٍ استباقيةٍ، جيدةً أو سيئة. فهي تكونُ ما يريدُ لها الناسُ أن تكون» (104). ينبغي ألا نصبحَ ضحاياها، بل فاعلينَ لها، بسلوكِ نهجٍ عقلاني، مسترشدينَ بالمحبةِ والحقيقة. أما معارضتُها معارضةً عمياءً فتنمُّ عن موقفٍ خاطئ ومتحيِّز، يؤدي في نهايةِ المطافِ لتجاهلِ نهجٍ يشتملُ أيضاً على جوانبَ إيجابيةٍ، مما يُعرِّضُ لخطرِ تضييعِ فرصةٍ كبيرةٍ للمشاركةِ في العديدِ من فُرَصِ التنميةِ التي تتيحُها. إنَّ عملياتِ العولمةِ، إذا ما قوربَت من منظارٍ صحيحٍ وأُديرت بشكلٍ جيدٍ، تُوفِّرُ إمكانيةً كبيرةً لإعادةِ توزيعِ الثروةِ على الصعيدِ العالمي، كما لمْ يحدثْ من قبلُ؛ أما إذا أسيئَت إدارتُها، فيمكنُها زيادةَ الفقرِ واللامساواةِ، فتصيبُ بأزمةٍ العالمَ بأسرِه. ينبغي إذاً تصحيحُ قصورِها، وحتى تلك الخطيرةُ منها، أي التي تُدخِلُ انقساماتٍ جديدةً بين الشعوبِ وداخِلِها، كما ينبغي أن نضمنَ بألا يتحوَّلَ التوزيعُ العادلُ للثروةِ إلى إعادةِ توزيعٍ للفقرِ أو زيادتِهِ، الأمرُ الذي نخشاهُ جراءَ إمكانيةِ سوءِ إدارةِ الوضعِ الحالي. حتى وقتٍ قريبٍ كان يُعتقدُ أنَّ على الدُولِ الفقيرةِ أن تظلَّ راسيةً على قدرٍ محدَّدٍ من التنميةِ وأن ترضى بتعاطفِ الشعوبِ المتقدمة. وقد أتّخذ البابا بولسُ السادسُ في رسالتِهِ "ترقّي الشعوب" موقفاً رافضاً لهذه العقليّة. اليوم لدينا مِن القوى المادّيةِ القادرةِ على تحريرِ هذه الشعوب مِن فقرها أكثرَ من أي وقتٍ مضى، لكنَّ يبقى المستفيدونَ منها شعوبُ البلدان المتقدمةِ وحدَها، أولئك الذين استغلّوا بشكلٍ أفضلَ عمليةَ تحريرِ تحرُّكاتِ رؤوسِ المالِ والأعمال. لذا فكبحُ انتشارِ بقعِ الازدهارِ في العالمِ بدافعِ مشاريعَ أنانيةٍ وحِمائيةٍ أو بسببِ المصالحِ الخاصةِ هو أمرٌ خاطئ. في الواقع، إنَّ إشراكََ البلدانِ الناشئةِ أو الناميةِ يسمحُ بتحسينِ إدارةِ هذه الأزمةِ بشكلٍ أفضل. إن عملياتِ الانتقالِ الكامنةِ في نهجِ العولمةِ تطرحُ صعوباتٍ وأخطاراً كبيرةً، لا يمكن التغلُّبُ عليها إلا بالإنتباهِ للمُحرِّكِ الإنساني والأخلاقي، الذي يدفعُ العولمةَ من الأعماقِ للوصولِ إلى أنسنةٍ تضامنيّة. للأسف غالباً ما طَغَتْ المنظوراتُ الأخلاقيةُ/الثقافيةُ ذات الطابِعِ الفردانيّ والنفعيّ على هذا المُحرِّكِ وخنقَتْه. العولمةُ ظاهرةٌ متعددةُ الأبعادِ والقِيم، لا بُدَّ مِن استغلالِها في تنوعِ ووحدةِ جميعِ أبعادِها، بما في ذلك البعدُ اللاهوتي. هذا سيسمحُ بأن نحيا ونوجِّه عولمةَ البشريةِ من حيثِ كونها علائقيّةٌ وتواصلٌ وتشارك.

الفصل الرابع

تنمية الشعوب
الحقوق والواجبات، البيئة

43. «التضامنُ العالميُّ، الذي هو حقيقةٌ واقعةٌ ومفيدةٌ لنا، هو أيضاً واجبٌ علينا» (105). يميلُ كثيرٌ من الناسِ اليومَ إلى الاعتقادِ بأنّهم غيرُ مسؤولينَ عن أحدٍ، إلا عن أنفسِهم. يظنّونَ بأنَّ لديهِم حقوقٌ فقط وغالباً ما يشقُّ عليهم التعوّدُ على المسؤوليةِ لتنميةِ ذواتِهم وغيرهِم تنميةً مُتكاملة. لذا مِن المهمِّ تشجيعُ تفكيرٍ جديدٍ حولَ تَضَمُّنِ الحقوقِ لواجباتٍ، تتحوَّلُ بدونِها لأمورٍ تعسُّفية (106). ها إننا نشهدُ في أيّامنا تناقضاً جمّاً، فمن ناحيةٍ نجدُ مُطالبةَ الناسِ للسُلُطاتِ العامةِ بالإعترافِ والترويجِ لحقوقٍ مزعومةٍ، تعسفيّةٍ واستمتاعيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى نجدُ تجاهلاً وانتهاكاً لحقوقٍ بدائيةٍ وأساسيةٍ لشريحةِ كبيرةٍ من الناس (107). كثيراً ما يُلاحظُ وجودُ علاقةٍ بينَ المُطالبة، في المجتمعاتِ الغنية، بالحقِّ في الحصولِ على ما هو فائضٌ أو حتى عاصٍ ورذيلٍ، ونقصِ الغذاءِ والمياهِ الصالحةِ للشربِ والتعليمِ الأساسي والرعايةِ الصحيةِ الأوليةِ في مناطقَ معينةٍ من العالمِ المتخلِّف أو حتى في ضواحي المدُنِ الكبيرة. أمّا العلاقةُ بينهما فتكمنُ في أنّهُ إذ تَخرُجُ الحقوقُ الفرديةُ عن إطارِ الواجباتِ التي تمنَحُها معناها الكاملَ، تُصابُ بالجنونِ وتغذّي دوامةً مِن مَطالبَ غيرِ محدودةٍ وخاليةٍ من المعايير. إنَّ الإفراطَ في الحقوقِ ينتهي بنسيانِ الواجبات. أمّا الواجباتُ فتُحدِّدُ الحقوقَ ضمنَ إطارٍ أنثروبولوجي وأخلاقي لتدخلَ في حقيقتِهِ فلا تغدو تعسّفيّة. لهذا السبب تعزِّزُ الواجباتُ الحقوقَ وتَحميها وتنشرُها كإلتزامٍ في خدمةِ الخير. أمّا إذا تأسَّسَتْ حقوقُ الإنسانِ على قراراتِ جماعةِ المواطنين وحدها، فيمكنُ تغييرُها في أي وقتٍ، فيخفُّ بالتالي في الوعي المشتركِ واجبُ احترامِها وتحقيقها. الحكوماتُ والمنظماتُ الدولية يمكنها إذاً نسيانَ موضوعيَّةِ الحقوقِ و"عدمِ توفُّرِها". عندما يحدثُ ذلك، تُهدَّدُ التنميةُ الحقيقيةُ للشعوبِ (108). إن سلوكياتٍ كهذِهِ تقوِّضُ سُلطانَ المنظماتِ الدوليةِ، وخاصةً في أعينِ البلدانِ التي هي في حاجةٍ أعظمَ للتنمية. هذه البلدان تطلُبُ من المجتمعِ الدولي تحمُّلَ واجباتِهِ لمساعدتِها على "تحديدِ مصيرها بنفسها" (109)، أي أن تتحملَ هي أيضاً بدورِها واجباتٍ. إنَّ تقاسمَ الواجباتِ المُشتَركةِ يُنتجُ أكثرَ بكثيرٍ من مجرَّدِ المطالبةِ بالحقوق.

44. ينبغي لمفهومِ الحقوقِ والواجباتِ في التنميةِ أن يأخذَ بعينِ الاعتبارِ المشاكلَ المرتبطةَ بالنموِّ السُكاني. وهو أمرٌ هامٌّ جداً بالنسبةِ للتنميةِ الحقيقيةِ، لأنه يتعلَّقُ بقِيَمِ الحياةِ والأسرةِ التي لا غنى عنها (110). من الخطإ اعتبارُ النموِّ السكاني سبباً رئيسياً للتخلف، حتى من وجهةِ نظرٍ اقتصادية: يكفي التأمّلُ بأمرينِ أوَّلهما الإنخفاضُ الكبيرُ لمعدلاتِ وفياتِ الأطفالِ وزيادةُ العمرِ الوسطي في الدولِ المتقدمةِ اقتصادياً، وثانيهما بوادرُ أزمةٍ يمكنُ كشفُها في المجتمعاتِ التي نجدُ فيها انخفاضاً مُقلقاً في معدَّلِ الولادات. تبقى طبعاً الحاجةُ إلى إيلاءِ الاهتمامِ الواجبِ للإنجابِ المسؤولِ، الذي يُعدُّ واحداً من العوامِلِ المُساهِمةِ بفعاليةٍ في التنميةِ البشريةِ المُتكاملة. إنَّ الكنيسةَ، إذ تهتمُّ بتنميةِ الإنسانِ الحقيقية، توصيهِ الاحترامَ الكاملَ للقيَمِ الإنسانيةِ حتى في ممارسةِ حياتِهِ الجنسية: إذ لا يمكنُ حصرُها في المتعةِ والمَرَحِ وحسب، شأنُها شأنُ التربيةِ الجنسيةِ التي لا يُمكنُ أن تُختَزَل إلى مجرَّدِ تعليماتٍ تقنيةٍ، هدفُها الوحيدُ حمايةُ المَعنيين من أي عدوى أو من "خطر" الإنجاب؛ مما يؤدي إلى إفقارِ المعنى الأعمق للحياةِ الجنسية وتجاهلِه. بدلاً من ذلك ينبغي الاعترافُ به وتحمُّل مسؤوليتِهِ مِن قِبل الشخصِ والمجتمع. فالمسؤوليةُ تحظِّرُ على حدٍّ سواء اعتبارَ الحياةِ الجنسيةِ مجردَ مصدرٍ للمتعةِ، كما وتنظيمها بسياساتٍ قسريةٍ لتحديدِ النسل. في كلتا الحالتين نحنَ أمامَ أفكارٍ وسياساتٍ مادّية، يقاسي من جرائِها الناس، في نهاية المطاف، أشكالاً مختلفةً من العنف. ينبغي مواجهةُ هذا كلِّه بمنحِ الصلاحياتِ الأساسيةِ، في هذا المجال، للأسر (111)، وليس للدولةِ وللسياساتِ التقييديةِ، بالإضافة لتنشئةِ الوالدَين الملائِمة.

إنَّ الانفتاح الأخلاقيَّ المسؤولَ عن الحياةِ لثروةٌ اجتماعيةٌ واقتصادية. هناكَ دولٌ كبيرةٌ قد تمكَّنَت من الخروجِ من حالةِ الفقرِ بفضلِ عددِها الكبيرِ ومَقدراتِ سكانها. أما بعضُ الدولِ التي كانت أمسُ مُزدهرةً فهي تتعرَّضُ الآن لمرحلةٍ من الشكِّ أو لتدهورٍ في بعضِ الحالات، نظراً لانخفاضِ مُعدَّلِ الولادات، وهي مشكلةٌ حاسمةٌ بالنسبةِ لمجتمعاتٍ ذات رفاهيةٍ عالية. إنَّ انخفاضَ معدَّلِ الولادات، أحياناً إلى دونِ ما يُسمى بـ "مؤشِّر الإستبدال" يقوِّضُ أيضاً نُظُمَ الرعايةِ الاجتماعيةِ، إذ يزيدُ تكاليفَها ويُقلِّصُ نسبةَ مدَّخراتِها وبالتالي أيضاً المواردَ الماليةَ اللازمةَ للإستثمار، كما يُقلِّلُ من توافُرِ العمّال المَهَرة، ويحدُّ من عددِ "العقول" الضروريةِ لاحتياجات الأمة. وعلاوةً على ذلك، تواجهُ الأسَرُ الصغيرةُ، أو متناهيةُ الصِغر، خطرَ إفقارِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، وعدمَ ضمانِ أشكالٍ فعَّالةٍ من التضامن. تُشكِّلُ هذه الحالاتِ دلائلَ على عدمِ الثقةِ في المستقبلِ، فضلاً عن الإرهاقِ المعنوي. لذا فإنَّ عرضَ جمالِ الأسرةِ والزواجِ ومدى مُطابقته لأعمقِ احتياجاتِ القلبِ والكرامةِ على الأجيالِ الجديدةِ، هي ضرورةٌ اجتماعيةٌ بل وحتى اقتصادية. في هذا المجال، على الدولِ وضعُ سياساتٍ لتعزيزِ مَكانةِ الأسرةِ المركزية ووحدتِها، تلكَ القائمةِ على الزواجِ بين رجلٍ وامرأةٍ، لكونها الخليةَ الأولى والحيويةَ في المجتمع، (112) والإلتزامُ بمشاكلِها الاقتصاديةِ و الضرائبيةِ مع احترامِ طبيعتِها العلائقية.

45. إن إشباعَ الاحتياجاتِ المعنويةِ العميقةِ للمرءِ هو أمرٌ مهمٌّ ومفيدٌ للخطةِ الاقتصاديةِ أيضاً. فالإقتصادُ يحتاجُ إلى الأخلاقِ لضمانِ كفاءةِ أدائِهِ، وليسَ لأيَّةٍ أخلاقٍ كانت بل للأخلاقِ التي هي في صالحِ الشخصِ البشري. يكثرُ الحديثُ في أيّامنا عن الأخلاقِ في قطاعات الاقتصادِ والمال والشركات. وتبرُزُ إلى حيِّزِ الوجودِ مراكزُ دراسةٍ وتدريبٍ على أخلاقياتِ الأعمالِ التجارية؛ كما ينتشرُ في العالمِ المتقدِّمِ نظامُ الشهاداتِ الأخلاقيةِ، في أعقابِ حركةِ الأفكارِ التي نشأتْ على مفهومِ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ للشركات. بالإضافةِ لذلك تقدُّم المصارفُ حساباتٍ وصناديقَ استثمارٍ تُدعى "أخلاقية". ويتطوَّرُ "تمويلٌ أخلاقي"، وخاصةً من خلالِ القروضِ الصغيرة، وبشكلٍ أعم، من خلالِ التمويلِ الصغير. تثيرُ هذه العملياتُ التقديرَ وتستحقُّ الدعمَ على نطاقٍ واسع. وهي تُلقي بآثارها الإيجابيةِ حتى على المناطقِ الأقلِّ نمواً على وجه الأرض. مع ذلك، ينبغي أن يوضعَ معيارٌ صحيحٌ لتمييزِها، وهذا بسبب إساءةِ استخدامِ صفةِ "أخلاقي" واستعمالِها بشكلٍ غير محدَّدٍ، يفسحُ المجالَ لربطِها بمعانٍ شديدةِ الإختلافِ فيما بينها، إلى درجةِ تمريرِ قراراتٍ واختياراتٍ تتعارضُ مع العدالةِ والخيرِ الحقيقي للإنسانِ وذلك تحتَ غطاءِ هذه الصفة.

هذا يعتمدُ كثيراً على مرجعيةِ النظامِ الأخلاقي. حولَ هذا الموضوع تقدِّمُ عقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعيةُ مساهمتَها المحددةَ، التي تقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ «على صورةِ الله» (تك 1: 27)، من هنا تتأتّى حُرمةُ كرامةِ الشخصِ البشري، فضلاً عن القيمةِ المتساميةِ للشريعةِ الأخلاقيةِ الطبيعية. إنَّ أخلاقياتٍ إقتصاديةً تتحاشى هاتَين الدَعامتَين ستخاطرُ حتماً بفقدانِ دلالاتِها وستتعرَّضُ لإستغلالِها لأهدافٍ أخرى؛ وبشكلٍ أكثرَ تحديداً، يمكنُها أن تَخدُمَ النُظُمَ الاقتصاديةَ/الماليةَ القائمةَ، بدلاً من معالجتِها لقصورِها. كما من شأنِها أيضاً أن تُبرِّرَ تمويلَ مشاريعَ لاأخلاقية. علاوةً على ذلك يجبُ ألا تُستخدمَ كلمةُ "أخلاقي" بتمييزٍ إيديولوجي، مما يوحي بأن المبادراتِ التي لا تحملُ شكلياً هذه الصفةَ هي مبادراتٌ لاأخلاقية. نحن بحاجةٍ لحشدِ الجهودِ – وهذه ملاحظة أساسية! – لا لظهورِ قطاعاتٍ أو شرائحَ "أخلاقيةٍ" للإقتصادِ أو الماليةِ فحسب، بل ليكونَ للإقتصادِ وللماليةِ بأكملِهِما صفةٌ أخلاقيةٌ، وهذا لن يكونَ بفضلِ عنوانٍ خارجي، بل بإحترامِ المتطلَّباتِ المُلازمةِ لطبيعتهما. عن هذا تتحدَّثُ بوضوحٍ عقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعيةُ، إذ تُذكِّرُ بأنَّ الإقتصادَ، في جميعِ فروعِهِ، هو مجالٌ من مجالاتِ النشاطِ البشري (113).

46. إذا ما نظرنا في المسائلِ المتعلّقةِ بالصلةِ القائمةِ بين قطاعِ الأعمالِ والأخلاق، بالإضافةِ إلى التطوراتِ التي تصيبُ نظامَ الانتاجِ، يبدو لنا أن التمييزَ السائدَ بين المؤسساتِ التي أنشئَت بهدفِ الربحِ وتلك التي لا تهدفُ للربح، لم يعد قادراً على تقديمِ صورةٍ كاملةٍ للواقع، ولا حتى لتوجيهٍ فعّالٍ للمستقبل. لقد نشَأَتْ في العقودِ الأخيرةِ مساحةٌ واسعةٌ تتوسَّطُ هذَين النوعَين من الشركات. وهي تتألَّفُ مِن: شركاتٍ تقليديةٍ توقِّعُ على معاهداتٍ لمساعدةِ البُلدان المتخلِّفةِ؛ مؤسَّساتٍ تتفرَّعُ عن مشاريعَ فرديةٍ؛  مجموعةِ شركاتٍ تهدِفُ لتحقيقِ منافعَ اجتماعية؛ عالمٍ متنوعٍ يضمُّ القائمينَ على يُدعى الإقتصاد المدني والتشاركي. هذه جميعُها ليست مُجرَّدَ "قطّاعٍ ثالث"، بل هي واقعٌ جديدٌ شاملٌ ومركَّبٌ، يشملُ القطاعَ الخاصَّ والعام، ومع أنه لا يَستبعدُ الربحَ فهو يرى فيهِ وسيلةً لتحقيقِ أغراضٍ إنسانيةٍ واجتماعية. أمّا إن كانَت هذه الشركات تقومُ أو لا تقومُ بتوزيعِ الأرباحِ أو تتخذُ هذه أو تلك مِن التكويناتِ التي يتطلَّبُها القانون، فهو أمرٌ ثانوي بالمقارنةِ مع استعدادِها لاعتبارِ الربحِ وسيلةً لتحقيقِ هدفِ أنسنةِ السوقِ والمجتمع. نحنُ نأملُ أن تجدَ هذه الأشكالُ الجديدةُ من الشركاتِ، في جميعِ البلدانِ، أُطراً قانونيةً وضرائبيةً مناسبة. فهي – دون التقليلِ من أهميةِ المشاريعَ التقليديةِ وفائدتها للتنميةِ الاقتصاديةِ والاجتماعية – تقومُ بتطويرِ النظامِ لتجعلَ المعنيينَ يتمِّمونَ واجباتِهم بشكلٍ أكثرَ وضوحاً وكمالاً. أضِف إلى ذلك أنَّ التنوعَ في الأشكالِ المؤسساتية للمشاريعِ يولِّدُ المزيدَ من المدنيَّةِ والقدرةِ على المنافسةِ على حدٍّ سواء.

47. يجبُ العملُ لتعزيزِ مختلَفِ أنواعِ المشاريعِ، وبوجهٍ خاص، تلكَ التي تَعتَبرُ الأرباحَ وسيلةً لتحقيقِ أهدافِ أنسنةِ السوقِ والمجتمعِ، وهذا مطلوبٌ حتى في البُلدانِ التي تُعاني من إقصاءٍ أو تهميشٍ من قِبَل دوائرِ الاقتصادِ العالمي، حيث من المهمِّ جداً المضي قُدُماً في مشاريعَ إعانيّةٍ تُصمَّمُ وتُدارُ بشكلٍ مناسبٍ وتسعى إلى دعمِ الحقوقِ، دون التخلّي عن تحمُّلِ المسؤولياتِ الناجمةِ عنها. ينبغي أن تخضعَ عملياتُ التنميةِ لمبدإ مَركزيَّةِ الشخصِ البشري، فهو الفاعلُ الذي يجبُ عليهِ أن يَضطَّلِعَ في المقامِ الأول بواجبِ التنمية. أمّا الغايةُ الرئيسيةُ فهي تحسينُ الأوضاعِ المعيشيةِ للأشخاصِ الواقعيينَ القاطنينَ في منطقةٍ معينةٍ، لكي يتمكّنوا من إتمامِ الواجباتِ التي يَمنعُهم الفقرُ من تأديتها في الوقتِ الحالي. لا يمكنُ أن تكونَ الرعايةُ موقفاً مجرداً. لذا على برامجِ التنميةِ أن تتميَّزَ بالمرونةِ لتتكيَّفَ مع الحالاتِ الخاصةِ؛ كما على المستفيدينَ منها أن يُشاركوا بشكلٍ مباشرٍ في التخطيطِ لها ويكونوا فاعلينَ أساسيين في تنفيذها. ومن الضروري أيضاً تطبيقُ معاييرِ التصاعديةِ والمُرافقة – بما في ذلك رصدُ النتائجِ – إذ لا توجَدُ وصفاتٌ تصلُحُ للجميع. يَعتمدُ القسمُ الأكبرُ من هذا على الإدارةِ الفعليةِ لعملياتِ التنمية. «إن عمليةَ ترقيَةِ الشعوبِ منوطةٌ بهم، وهم أولُ المسؤولين عنها. ولكنهم لن يحقِّقوها وهم مُتعازِلون» (114). اليومَ، وإذ تُقوَّى عمليةُ التكامُلِ التدريجي لكوكبِنا، تتّخذُ نصيحةُ البابا بولسَ السادسِ هذه قيمةً أكبر. إنَّ قِوى الإدراجِ ليست بذاتيّة. يجبُ حسابُ الحلولِ على مِقياسِ حياةِ الناسِ والأشخاصِ الواقعيين، إستناداً إلى تقييمٍ متعقِّلٍ لكلِّ حالة على حِدا. إلى جانِبِ المشاريعِ الكُبرى هناك حاجةٌ للصغيرةِ منها، وقبلَ كلِّ شيء، هناكَ حاجةٌ لتَحرُّكٍ فعّالٍ من جانِبِ جميعِ الجهاتِ الفاعلةِ في المُجتمع المدني، سواءً من الهيئاتِ القانونيةِ أو من الأفراد.

يتطلَّبُ التعاونُ الدولي أناساً يشاركونَ في عمليةِ التنميةِ الاقتصاديةِ والبشرية، وذلك من خلالِ التضامنِ بحضورِهم شخصياً، بمرافقتِهم للآخرين وتدريبِهم واحترامهِم. من وجهةِ النظرِ هذه، على الهيئاتِ الدولية أن تتسآءلَ عن مدى فعاليةِ المَجالسِ البيروقراطية والإدارية، ذاتِ الكلفةِ العالية. يحدثُ أحياناً أن يتحوَّل متلقّو المساعداتِ إلى أداةٍ لإستفادةِ المُساعدينَ والفقراءُ إلى وسيلةٍ للحفاظِ على المنظَّماتِ البيروقراطيةِ المُسرفة، التي تحتفظُ في سبيلِ دوامِها بنسبٍ عاليةٍ من الموارِدِ التي ينبغي أن تُخصَّصَ للتنمية. لهذا نتمنى من جميعِ الهيئاتِ الدولية والمنظّماتِ غيرِ الحكومية أن تلتزمَ بالشفافيةِ الكاملةِ، وتُعلِمَ الجهاتِ المانحةَ والرأي العامَّ عن النسبةِ المئوية التي تُخصَّص لبرامجِ التعاونِ من الأموالِ الواردةِ، وعن المضمونِ الحقيقي لمثل هذه البرامجِ وأخيراً عن تفاصيلِ إنفاقِ المؤسسةِ عينها.

48. يرتبطُ موضوعُ التنميةِ في أيّامنا إرتباطاً وثيقاً بالواجباتِ الناجمةِ عن علاقةِ الانسانِ بالبيئةِ الطبيعية. هذه قد مَنَحَها الله للجميعِ، واستخدُامها يضعُ على عاتقنا مسؤوليةً تجاهَ أجيالِ المستقبلِ والفقراءِ والبشريةِ بأسرها. إذا اعتبرنا الطبيعةَ، وقبلَ كل شيء الإنسانَ، نتيجةً للصُدفةِ أو لحتميةِ التطوُّرِ، يَضعفُ الوعيُ بالمسؤوليةِ في الضمائر. أمّا المؤمنُ فيرى في الطبيعةِ نتاجاً رائعاً لعملِ اللهِ الخلاّق، يستخدمُهُ الإنسانُ بمسؤوليةٍ لتلبيةِ حاجاتِهِ المشروعةِ – ماديةً كانت أم غير مادية – بما يتماشى مع التوازنِ المتأصِّل في الخليقةِ نفسها. إن تجاهلَ هذه الرؤيةَ يجعلُ الإنسانَ إمّا أن ينظُرَ إلى الطبيعةِ كشيءٍ مِن المُحرَّمات أو أن يُسيءَ استعمالَها. لا يتّفقُ كلا هذين الموقفَين مع نظرةِ المسيحيةِ إلى الطبيعةِ، التي هي ثمرةُ عملِ الله الخالق.

الطبيعةٌ تعبيرٌ عن خطةِ محبةٍ وحق. فهي تسبقُنا زمنياً وقد أعطاها الله لنا كبيئةٍ فيها نعيشُ. هي تُحدِّثُنا عن الخالق (رو 1: 20) وعن محبَّتِهِ للبشرية. قد قُضيَ لها أن "تُجمَعَ" في المسيحِ في نهايةِ الأزمنةِ (أف 1: 9-10 ، كول 1: 19-20). فهي أيضاً بمثابةِ "دعوةٍ" (115). الطبيعةُ ليست موضوعةً أمامنا كأنَّها «كومةٌ من الأنقاضِ المُتناثرةِ عشوائياً» (116)، بل كهبةٍ من الخالقِ الذي صمَّمَ أنظمتَها المتأصّلةَ فيها، بحيث يستمدُّ الإنسانُ منها المبادئ التوجيهيةَ كي «يفلحَها ويحرسَها» (تك 2: 15). لكن ينبغي أيضاً التأكيدُ على أن اعتبارَ الطبيعةِ أهمَّ من الشخصِ البشري هو أمرٌ يتعارضُ مع التنميةِ الحقيقية. إنَّ موقفاً كهذاً يؤدي إلى اتجاهاتٍ وثنيةٍ جديدةٍ أو إلى حلوليةٍ جديدة: فلا يمكن للطبيعةِ وحدَها، بمفهومِها الطبيعانيّ البحت، أن تجلبَ الخلاصَ للإنسان. علاوةً على ذلك، ينبغي رفضُ الموقفِ المُعاكس الهادفِ إلى اعتبارها مجرّدَ آلياتٍ، وذلك لأن البيئةَ الطبيعيةَ ليست مادةً متوفرةً لنا لنعملَ بها ما نشاءُ وحَسْب، بل هي عملٌ رائعٌ من أعمالِ الخالق، يحملُ في طيّاتِه "قواعدَ" تشيرُ إلى الغاياتِ والمعاييرِ في سبيل استعمالها استعمالاً حكيماً، بعيداً عن الإستفادةِ التعسفيّة. كثيرٌ من الضررِ للتنميةِ ينجُمُ عن هذا الرأي المشوَّه. إنَّ اختزالَ الطبيعةِ في مجموعةٍ من الوقائِعِ الحتميةِ لا يغدو مَصدراً للعنفِ تجاهَ البيئةِ وحسب بل ويُحفِّزُ إجراءاتٍ لا تحترمُ طبيعةَ الإنسان. هذه الأخيرةُ لا تتشكَّلُ من المادةِ فقط بل من الروحِ أيضاً، ولكونها غنيةً بالمعاني والغاياتِ الساميةِ التي ينبغي تحقيقُها، تُعدُّ معياراً للثقافةِ أيضاً. يفسِّرُ الإنسانُ البيئةَ الطبيعيةَ ويُشكِّلُها من خلالِ الثقافةِ التي توجّهها الحريةُ المسؤولةُ والخاضعةُ للشريعةِ الأخلاقية. لا يمكن لخططِ التنميةِ البشريةِ المُتكاملة تجاهلَ الأجيالِ اللاحقةِ، بل عليها أن تتَّسِم بطابعِ التضامنِ والعدالةِ المتبادلةِ بين الأجيال، مع الأخذِ في عينِ الاعتبار مجالاتٍ عديدةٍ: البيئةِ والقانونِ والاقتصادِ والسياسةِ والثقافة (117).

49. في عصرِنا هذا ينبغي للقضايا المتصلةِ برعايةِ البيئةِ والمحافظَةِ عليها أن تأخُذَ في عينِ الاعتبارِ مشاكلَ الطاقة. في الواقع إنَّ إكتنازَ موارِدَ الطاقةِ غير المتجددةِ من قِبلِ بعضِ الدولِ والمجموعاتِ المتمتّعةِ بالسلطةِ يشكِّلُ عائقاً خطيراً أمامَ التنميةِ في البلدانِ الفقيرة. هذه البلدان لا تملكُ الوسائلَ الماليةَ للحصولِ على مصادرِ الطاقةِ غير المتجددةِ الموجودةِ أو لتمويلِ البحثِ عن مصادرَ جديدةٍ وبديلة. إنَّ تكديسَ المواردِ الطبيعيةِ، والتي تصدُرُ في كثيرٍ من الحالاتِ عن البلدانِ الفقيرةِ، يولِّدُ الاستغلالَ والصراعاتِ المتكررةَ بين الدولِ وداخلِها. صراعاتٍ غالباً ما تحتدمُ على أرضِ تلك البلدان، فتجلِبُ الكثيرَ من الموتِ والدمارِ والمزيدَ من التدهور. للمجتمعِ الدولي مهمةٌ لا غنى عنها تتمثَّلُ في إيجادِ سُبلٍ مؤسساتيةٍ لتنظيمِ استغلالِ المواردِ غير المتجدِّدَة، وذلك بمشاركةِ البلدانِ الفقيرةِ، في سبيل التخطيطِ معاً للمستقبل.

على هذه الجبهةِ هناك ضرورةٌ أخلاقيةٌ مُلِحَّة لتضامنٍ مُتجدِّدٍ، ولا سيما في العلاقاتِ بين البلدانِ النامية والبلدانِ المتقدمةِ صناعياً (118). بمقدورِ المجتمعاتِ المتقدمةِ تكنولوجياً ومن واجبها الحدُّ من احتياجاتِها للطاقةِ، وذلك لأن أنشطةَ التصنيعِ تتطورُ، ولأننا نشهدُ بين مواطنيها زيادةَ الوعي البيئي. وينبغي أن نُضيفَ أيضاً أنَّه بالإمكانِ حالياً تحسينُ كفاءةِ الطاقةِ وتطويرُ بحوثِ الطاقاتِ البديلة. لكن من الضروري أيضاً إعادةُ توزيعِ مواردِ الطاقةِ العالمية، حتى يتسنّى للبلدانِ التي تفتقِرُ إليها إمكانيةَ الإستفادةِ منها. لا يمكنُ تركُ مصيرِ هذه البلدانِ في يَدِ أيٍّ كان، أو رهنِ مَن هو أقوى. إنّها لمشاكلُ هامةٌ تتطلَّبُ، معالجتُها بشكلٍ مناسبٍ، مِن جميعِ المسؤولينَ وعياً للعواقبِ التي ستجرُّها على الأجيالِ القادمةِ، وخاصةً على جمهورِ الشبابِ المنتمين للشعوبِ الفقيرة، الذين «يُطالبونَ بقسطِهم الإيجابي في بُنيانِ عالمٍ أفضل» (119).

50. هذه المسؤوليةُ هي شاملةٌ، لأنَّها لا تخصُّ الطاقةَ فحسب بل الخليقةَ بأسرها، التي لا يجبُ ألا نورِّثَها للأجيالِ القادمةِ مستَنزَفَةَ الموارد. يُسمحُ للإنسانِ بممارسةِ سُلطةٍ على الطبيعةِ تتسمُ بالمسؤوليةِ، وهذا للحفاظِ عليها والإستفادةِ منها وتصنيعِها بطرقٍ جديدةٍ وتكنولوجياتٍ متقدمةٍ، بحيثُ يمكنها بجدارةٍ أن تستقبلَ الشعوبَ التي تقطنُها وتغذّيها. على أرضنا هذه هناكَ مكانٌ للجميع: ينبغي أن تجدَ كاملُ الأسرةِ البشريةِ على سطحِها المواردَ اللازمةَ للعيشِ بكرامةٍ، بمعونةِ الطبيعةِ ذاتِها التي هي هبةٌ من اللهِ لأبنائه، وبإلتزامِ كلِّ فردٍ بعملِهِ وابتكاراتِه. لكن علينا أن ننتبِهَ لمدى جديَّةِ واجبِنا في تسليمِ الأرضِ للأجيالِ القادمةِ في حالةٍ تُمكِّنُهم هم أيضاً من أن يعيشوا عليها بكرامةٍ ويستمروا في فلاحتِها. هذا يعني إلتزاماً لإتّخاذِ القراراتِ سويةً، «بعد رسمِ الطريقِ الواجبِ سلوكُهِ بمسؤوليةٍ، بهدَفِ تقويةِ العهدِ بين الجنسِ البشري والبيئة، كي يكونَ مرآةً لحبِّ اللهِ الخالقِ، الذي منه أتيْنا وإليه نعودُ» (120). نأملُ من المجتمعِ الدولي والحكوماتِ أن يعرفوا كيفيةَ التصدي بفعاليةٍ للإستخداماتِ المُضرَّةِ بالبيئة. كما يجبُ أيضاً على السُلُطاتِ المُختصة ألا توفرَ جهداً لضمانِ التعريفِ بالتكاليفِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ الناشئةِ عن استخدامِ الموارِدِ البيئيةِ المُشتركَة، بشفافيةٍ وضمانِ أن يكونَ مصدرُها بالكاملِ أولئكَ الذين يستفيدونَ منها، وليس غيرَهم من الشعوبِ أو من أجيالِ المستقبل: تتطلَّبُ حمايةُ البيئةِ والمواردِ والمناخِ من جميعِ القياداتِ الدولية التعاونَ سويةً واظهارَ استعدادِهم للعمل بحُسنِ نيةٍ، واحترامَ القانونِ والتضامنَ مع أضعَفِ المناطقِ في العالم (121). واحدةٌ من مَهامِ الاقتصادِ الرئيسيةِ هي الإستخدامُ الأكثرُ فعاليةً للموارد، وليس الاعتداءَ عليها، واضعاً في اعتبارِهِ أن مفهومَ الفعاليةِ هذا ليسَ مُحايداً تجاهَ القِيَم الأخلاقية.

51. تؤثِّرُ طريقةُ تعاملِ الإنسانِ مع البيئةِ على طريقةِ تعاملِهِ مع نفسِهِ والعكسُ بالعكس. تُنبِّهُ هذه الحقيقةُ المجتمعَ الحاليَّ لإعادةِ النظرِ جدّياً في نمطِ حياتِهِ، الذي يميلُ، في أجزاءٍ كثيرةٍ من العالمِ، إلى الفلسفةِ الإمتاعيَّة والنزعةِ الاستهلاكيةِ، بينما لا يكترثُ إلى الأضرارِ التي يجنيها منها (122). هناكَ حاجةٌ إلى تغييرٍ حقيقي في العقليةِ، يقودُنا إلى اعتمادِ أنماطَ حياةٍ جديدةٍ، «تتوخّى الحقَّ والجمالَ والصلاحَ والتعاونَ مع الغيرِ في سبيلِ نموٍّ مشتركٍ، ويُنطَلَقُ منها لتحديدِ وجوهِ الاستهلاكِ والتوفيرِ والتوظيفِ المالي» (123). كلُّ إساءةٍ للتضامنِ وللتعايُشِ المتمدِّنِ تلحقُ أضراراً بالبيئةِ، كما أنَّ التدهورَ البيئي يتسبَّبُ بدورِهِ بعدمِ الرضا في العلاقاتِ الاجتماعية. فالطبيعةُ، ولا سيما في عصرنا هذا، مندمجةٌ في التفاعُلاتِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ لدرجةِ أنها لا تُشكِّلُ مُتغيِّراً مُستقلاً تماماً. إنَّ واقعَ التصحُّرِ وتقلُّصِ الانتاجِ الزراعيّ في بعضِ المناطقِ هو أيضاً نتيجةٌ لإنخفاضِ عددِ قاطنيها أو لتخلُّفِهم. لذلكَ فإنَّ تحفيزَ التنميةِ الاقتصاديةِ والثقافيةِ لأولئكَ السكانِ يؤدّي لحمايةِ الطبيعةِ على حدٍّ سواء. لا ننسى أيضاً الكمَّ الهائلَ من الموارد الطبيعيةِ الذي تُدمِّرُه الحروب! فإن قامَ السلامُ في الشعوبِ وبينها أتاحَ مزيداً من الحفاظِ على الطبيعة. إنَّ اكتنازَ المَوارد، وخاصةً المياه، يمكنُ أن يُسبِّبَ صراعاتٍ خطيرةً بين الشعوبِ المَعنيّة. لذا يُمكنُ للإتفاقاتِ السلميةِ الناظمةِ لإستخدامِ الموارد حمايةَ الطبيعةِ والمساهمةَ في إزدهارِ المجتمعات.

على الكنيسةِ مسؤوليةٌ تجاهَ الخليقةِ وينبغي لها أن تضطلعَ بها حتى على المستوى العام. وإذ تؤدّي رسالتَها هذه، يجبُ ألا تكتفي بحمايةِ الأرضِ والماءِ والهواءِ كمخلوقاتٍ وُهبَت للجميعِ، بل عليها بشكلٍ خاص حمايةَ الإنسانِ من تدميرِهِ لنفسِه. من الضروري أن يوجَدَ شيءٌ من هذا القَبيل يُعنى بالبيئةِ البشريةِ، بمعناها الصحيح. فتدهورُ الطبيعةِ يرتبطُ ارتباطاً وثيقاً بثقافةِ المجتمعِ التي تشكِّلُ التعايشَ بين البشر: إنَّ احترامَ «البيئةِ البشريةِ» (124) داخلَ المجتمعِ يعودُ بالنفعِ على الوسطِ البيئي أيضاً. وكما أن فضائلَ الإنسانِ متعلِّقةٌ بعضها ببعض، حتى إنَّ ضعفَ واحدةٍ منها يُعرِّضُ الأخرى للخطرِ، هكذا شأنُ النظامِ البيئيّ الذي يقومُ على أساسِ احترامِ خطةٍ تنطوي على كلٍّ مِن التعايشِ السليم في المجتمعِ والعلاقةِ الصالحةِ مع الطبيعة.

للحفاظِ على الطبيعةِ لا يكفي التدخُّلُ من خلالِ حوافزَ أو مثبطاتٍ اقتصاديةٍ، ولا حتى مجرَّدُ قدرٍ كافٍ من التعليم. هذه أدواتٌ مهمةٌ، لكنَّ المشكلةَ الرئيسيةَ تكمنُ في مُجمَل سلوكياتِ المجتمعِ الأخلاقية. إن لم يُحترَم الحقُّ في الحياةِ والموتِ الطبيعي، وإذا ما غدا الحَبَلُ بالإنسانِ والحملُ والولادةُ عمليةً اصطناعيةً، وإذا ما ضُحِّيَ بالأجنَّةِ البشرية لأغراضِ البحثِ العلمي، يفقدُ الضميرُ المشتركُ مفهومَ البيئةِ البشريةِ ويفقدُ بالتالي الوسطَ البيئي. فمِنَ التناقُضِ أن نطلبَ من الأجيالِ الجديدةِ احترامَ البيئةِ الطبيعيةِ بينما التنشئةُ والقوانينُ لا تساعدهُم على احترامِ أنفسهم. إنَّ كتابَ الطبيعةِ واحدٌ لا يتجزأ، فيه نجدُ البيئةَ والحياةَ والحياةَ الجنسيةَ والزواجَ والأسرةَ والعلاقاتِ الاجتماعيةَ، وبتعبيرٍ واحدٍ "التنميةَ البشريةَ المتكاملة". إنَّ واجباتِنا تجاهَ البيئةِ مرتبطةٌ بواجباتِنا تجاهَ الشخصِ البشري، في حدِّ ذاتِهِ وفي علاقتِهِ بالآخرين. لا يمكنُ لواحدٍ أن ينتهِكَ الآخر، مما يُشكِّلُ تناقضاً خطيراً في المواقِفِ والممارساتِ في عصرِنا، يُرهِقُ الإنسانَ ويُعطِّلُ البيئةَ ويُضرُّ بالمجتمع.

52. لا يمكنُ للحقِّ وللمحبةِ التي يكشفُها الحقُّ، أن يكونا من نِتاجنا، إذ لا يَسعُنا سوى قبولِهما. فمصدرُهما الأساسي ليس، ولا يمكن أن يكون، الإنسانَ بل الله، لأنه هو نفسُه الحقيقةُ والحبُّ. إنّه لمبدأٌ بالغُ الأهميةِ بالنسبةِ للمجتمعِ وللتنميةِ، لأنهما ليسا مِن نتاجِ البشر؛ لا بل إن الدعوةَ لتنميةِ الأشخاصِ والشعوبِ نفسَها لا تقومُ على قرارٍ بشريٍّ محض، فهي متجذِّرةٌ في خطةٍ تسبُقنا وتشكلُ لنا جميعاً واجباً لا بدَّ من قبولِهِ بِحُرية. إنَّ ما يسبقُنا وما يشكِّلُ قِوامَنا – أي دوامُ المحبةِ والحقيقة – يبين لنا ما هو صالحٌ وعلامَ تقومُ سعادتُنا. أي يُبيِّنُ لنا الطريقَ إلى التنميةِ الحقيقية.

 

الفصل الخامس

تعاون الأسرة
 البشرية


53. أحَّدُ أشكالِ الفقرِ الأكثرِ عُمقاً هو شعورُ الإنسانِ بالوحدة. إذا ما نظرنا جيداً لأشكالِ الفقرِ الأخرى، بما في ذلكَ الفقرُ المادّي، نجدُ أنها تنشأُ عن العِزلةِ، أي عن فقدانِ المحبةِ أو صعوبةِ منحِها. كثيراً ما تنشأُ مختلفُ أشكالُ الفقرِ عن رفضِ محبةِ الله، وعن تقوقعٍ مأساويٍّ أصليٍّ للإنسانِ على نفسِهِ، إذ يَعتقدُ بكفايتِهِ لذاتِهِ أو بأنَّ وجودَهُ هو مُجرَّدُ واقعةٍ عابرةٍ لا معنى لها، وبأنهُ "غريبٌ" في كونٍ تَشكَّلَ عن طريقِ الصُدفة. هكذا يتغرَّبُ الإنسانُ عن نفسِهِ عندما يعيشُ وحيداً أو يبتعِدُ عن الواقعِ عندما يتخلّى عن التفكيرِ والإيمانِ بمن هو أساسُ كلِّ شيء (125). لا بل تتغرَّبُ البشريةُ بأسرِها عن نفسِها عندما تَعتمدُ على مشاريعَ إنسانيةٍ محضةٍ وعلى أيديولوجياتٍ ومثالياتٍ كاذبة (126). تبدو البشريةُ اليومَ أكثرَ تفاعلاً مما كانت عليه بالأمس: إلا أنه ينبغي لهذا التقاربِ المتزايدِ أن يتحوَّل إلى شركةٍ حقيقية. تَعتمدُ تنميةُ الشعوبِ قبلَ كلِّ شيء على اعترافِهم بأنَّهم عائلةٌ واحدةٌ، تعملُ في شركةٍ حقيقيةٍ، ولا تتألفُ من مجرَّدِ أناسٍ يعيشونَ بجوارِ بعضِهم البعض (127).

لقد لاحظَ بولسُ السادسُ بأنَّ «العالمَ يُعاني نقصاً في الفِكر» (128). إنَّ تصريحَه هذا هو عبارة عن ملاحظةٍ، لكن قبلَ كل شيءٍ هو أملٌ بوجودِ دفعةٍ جديدةٍ من الفكرِ لفهمٍ أفضلَ للآثارِ المترتِّبةِ على كونِنا أسرةً واحدةً؛ يحثُّ التفاعلُ بين شعوبِ العالمِ على هذا الزَخْمِ، ليحدُثَ التكاملُ عبرَ التضامُن (129) بدلاً من التهميش. إنَّ تفكيراً كهذا يتطلَّبُ إجراءَ تحليلٍ نقديٍّ وقِيَميٍّ لمقولةِ العلاقة. فالعلاقةُ إلتزامٌ لا يمكنُ أن يُتمَّمَ مِن خلالِ العلومِ الاجتماعيةِ وحدها، لأنه يتطلَّبُ مَعارفَ كالميتافيزيقيا واللاهوت، تَهبُ فهماً مُستنيراً لكرامةِ الإنسانِ المتسامية.

المخلوقُ البشريُّ، لكونِهِ ذا طبيعةٍ روحية، يُحقِّقُ ذاتَهُ في العلاقاتِ مع أَمثالِه. فكلّما عاشَها بطريقةٍ صحيحةٍ كلّما ازدادَ نضجاً في هويته الشخصية. فالإنسانُ لا يجدُ قيمتَه بالإنعزالِ عن الآخرين، بل في العلاقاتِ معهم ومع الله. لذا تغدو أهميةُ هذه العلاقات أهميةً حاسمة. هذا ينطبقُ على الشعوب أيضاً. لذا فمنَ المفيدِ جداً لتنميتِها وجودُ نظرةٍ ميتافيزيقيةٍ للعلاقةِ بين الأشخاص. في هذا الصدَد يجدُ العقلُ إلهاماً وإرشاداً في الوحي المسيحي، الذي يَعتبرُ بأنَّه لا يَنبغي للمجتمعِ البشري أن يُذيبَ الشخصَ فيلغي ذاتيَّته، كما يحدُثُ في أشكالٍ مختلفةٍ من الاستبدادِ، بل على العكس تماماً، فهو يزيدُ من قدرِها لأن العلاقةَ بين الشخصِ والمجتمع هي علاقةُ كُليَّةٍ بكُليَّةٍ أخرى (130). كما أنَّ الأسرةَ لا تُلغي الأشخاصَ الذين يشكِّلونَها، وكما أن الكنيسة نفسها تُقدِّرُ أحسنَ تقديرٍ «الخليقةَ الجديدة» (غلا 6: 15؛ 2 كو 5: 17) التي تدخلُ بالمعموديةِ في جسدِها الحي، كذلكَ لا تُلغي وحدةُ الأسرةِ البشريةِ في ذاتِها الأشخاصَ والشعوبَ والثقافاتِ، لا بل تجعلُها أكثرَ شفافيةً فيما بينها، وأكثر إتحاداً في تنوُّعِها المشروع.

54. يتوازى موضوعُ التنميةِ مع إدراجِ علاقةِ جميعِ الأشخاصِ والشعوبِ في جماعةِ الأسرةِ البشريةِ الواحدة، التي تُبنى بالتضامنِ على أساسٍ من القيمِ الأساسيةِ للعدالةِ والسلام. تجدُ هذه النظرةُ نوراً حاسماً في العلاقةِ بين أقانيمِ الثالوثِ في جوهرٍ إلهيٍّ واحد. الثالوثُ هو وَحدةٌ مُطلقة، لكونِ الأقانيمِ الإلهيةِ علاقةً محضة. بينَ الأقانيمِ الإلهيةِ هناكَ ملءُ الشفافيةِ والإرتباطِ الكُلِّي، لأنهم يُشكِّلون مُطلقَ الوحدةِ والوحدانية. يُريدُ الله أن يَضمَّنا نحن أيضاً لهذه الشَرِكة، «ليكونوا واحداً كما نحنُ واحد» (يو 17: 22). الكنيسةُ هي علامةٌ وأداةٌ لهذه الوحدة (131). فعلى العلاقاتِ بين الناسِ، عبر التاريخ، أن تستفيدَ من الإشارةِ إلى هذا النموذجِ الإلهي. نحنُ نفهمُ في ضوءِ سرِّ الثالوثِ المُتجلّي أنَّ الانفتاحَ الحقيقي لا يعني التشتُّتَ بعيداً عن الذات، بل تداخُلاً عميقاً. هذا ما تثبتُهُ أيضاً خبرةُ الإنسانِ اليوميةِ للمحبةِ والحق. فكما يوحِّدُ الحبُّ الزوجين روحياً في سرِّ الزواج المقدَّس فيجعلُهُما «جسداً واحداً» (تك 2: 24؛ مت 5: 19؛ أف 5: 31) ويصنعُ ممَّن كانوا إثنين وحدةً علائقيةً وحقيقية، كذلك تُوحِّدُ الحقيقةُ الأرواحَ فيما بينها وتجعلُها تُفكِّرُ في انسجامٍ تام، إذ تجذُبُها وتوحِّدُها في ذاتِها.

55. إنَّ الوحيَ المسيحيَّ القائلَ بوحدةِ الجنسِ البشري يفترضُ تأويلاً ميتافيزيقياً للإنسانِ، فيه تحتلُّ "العلائقيةُ" مكانةً جوهرية. تُعلِّمُ بدورها الثقافاتُ والأديانُ الأخرى مبادئَ الأخوَّةِ والسلام، وبالتالي فهي من الأهميةِ بمكانٍ بالنسبةِ للتنميةِ البشريةِ المتكاملة.ولكن هناكَ آراءٌ دينيةٌ وثقافيةٌ لا تتَّخِذُ بشكلٍ كاملٍ مبدأَ المحبةِ والحقيقةِ، فينتهي بها الأمرُ لكَبْحِ مسيرةِ التنميةِ البشريةِ الحقيقيةِ أو حتى منعِها. تتخلّلُ عالمَ اليومَ بعضُ الثقافاتِ ذاتُ الطابعِ الدينيِّ والتي لا تُلزِمُ الإنسانَ بالشركةِ مع الآخرينَ، بل تعزلُهُ في بحثِهِ عن الرَّفاهِ الفردي، وتكتفي بإرضاءِ حاجاتِهِ النفسية. هكذا يمكنُ أن يغدوَ إنتشارُ بعضِ المساراتِ الدينيةِ لمجموعاتٍ صغيرةٍ أو حتى لأفرادٍ بالإضافةِ إلى التلفيقيةِ [ج] الدينيةِ عواملَ تشتُّتٍ ولامبالاة بالآخرين. لذا يُعَدُّ التوجُهُ لتعزيزِ هذهِ التلفيقيّةِ أحَّدَ الآثارِ السلبيةِ المُحتَمَلةِ للعولَمَةِ (132)، لأنه يغذِّي أشكالاً من "الدِّين" تُغرِّبُ الأشخاصَ عن بعضِهم البعض بدلاً من جمعِهم، وتُبعدُهم عن الواقع. ولا تزالُ توجدُ، في الوقتِ نفسِهِ، تُراثاتٌ ثقافيةٌ ودينيةٌ تُحجِّرُ المجتمعَ في طبقاتٍ ثابتةٍ، وفي معتقداتٍ سحريةٍ لا تحترمُ كرامةَ الشخص البشري، إذ تُخضعهُ لقوى غامضةٍ. في هذه السياقات، تجدُ كلُّ من المحبةِ والحقيقةِ صعوبةً في الإنتشارِ، مما يُضرُّ بالتنميةِ الأصيلة.

لهذا السبب، وبالرغم من أنَّ التنميةَ تحتاجُ للأديانِ ولثقافاتِ الشعوبِ المُختلفةِ، إلا أنه ينبغي ممارسةُ التمييزِ المناسبِ تجاهَها. فالحريةُ الدينيةُ لا تعني اللامبالاةَ الدينيةَ ولا تعني أنَّ جميعَ الأديانِ متماثلةٌ (133). إن ممارسةَ التمييزِ حولَ مُساهمةِ الثقافاتِ والأديانِ هو أمرٌ ضروريٌّ لبناءِ المجتمعِ مع احترامِ الخيرِ العام، خصوصاً بالنسبةِ لأولئك الذين يمارسونَ السُلطةَ السياسية. يجب أن يُبنى هذا التمييزُ على معيارَي المحبةِ والحقيقة. وبما أنَّه ينطوي على تنميةِ الأشخاصِ والشعوبِ، فعليه أن يأخُذَ في الحسبانِ حاجةَ التحرُّر والإندماجِ في جماعةٍ بشريةٍ عالميَّة. «كلُّ الإنسانِ وكلُّ إنسانٍ» هو أيضاُ معيارٌ لتقييمِ الثقافاتِ والأديان. والمسيحيةُ لكونِها دينُ «اللهِ ذي الوجهِ الإنساني» (134) تحمِلُ في ذاتِها مثلَ هذا المعيار.

56. لا يمكنُ للمسيحيةِ وللدياناتِ الأخرى أن تقدِّمَ مُساهمتَها في التنميةِ إلا إذا كانَ اللهُ يَجِدُ لهُ مكاناً في مجالِ الحياةِ العامّةِ، وبشكلٍ خاص في الحياةِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ وخصوصاً السياسية. لقد وُلِدت عَقيدةُ الكنيسةِ الاجتماعيةِ لتُطالِب للدِّين المسيحي بـ "حقِّ المُواطَنة" هذا (135). إن إنكارَ الحقِّ في ممارسةِ الدِّين علناً وفي العملِ ليتسنّى لحقائِقِ الإيمان أن تُغيِّرَ الحياةَ العامَّةَ أيضاً، لهُ آثارٌ سلبيةٌ على التنميةِ الحقيقية. فإستبعادُ الدِّين من الحياةِ العامّةِ يُمنع، مِثلُهُ مثلُ الأصوليةِ الدينيةِ، اللقاءَ بين الناسِ وتعاونَهم من أجلِ النهوضِ بالبشرية. فلا تلبَثُ الحياةُ العامةُ أن تفتَقِرَ للدوافعِ وتتَّخِذُ السياسةُ أشكالاً قَمعيةً وعُدوانية. كما تَقَعُ حقوقُ الإنسانِ في خطرِ عَدَمِ تطبيقها وذلك إمّا لأنها تَفتقدُ لأساسِها المُتسامي أو لأن الحريَّةَ تُسلَبُ من الأشخاص. لا يوجدُ في النزعاتِ العَلمانية والأصوليةِ إمكانيةٌ لإجراءِ حوارٍ خَصبٍ وتعاونٍ مُثمرٍ بين المنطقِ العقليّ والإيمانِ. فالعقلُ يحتاجُ بإستمرارٍ إلى تنقيةِ الايمان لهُ، وهذا يصحُّ أيضاً في حالةِ المَنطِقِ السياسي، الذي ليس له أن يعتقدَ بقدرته على كلِّ شيء. والدِّينُ بدورِهِ أيضاً يحتاجُ إلى تنقيةٍ مستمرّةٍ من قِبَلِ العَقلِ، في سبيلِ إظهارِ وجهِهِ الإنساني الأصيل. إنَّ لِقَطْعِ روابطِ حوارٍ كهذا تكلفةً عاليةً جداً بالنسبةِ لتنميةِ البشرية.

57. لا يمكنُ للحوارِ بينَ الإيمانِ والعقلِ إلاّ أن يزيدَ من فَعاليةِ عملِ المؤسساتِ الخيريةِ في المجتمعِ، ويُشكِّلَ الإطارَ الأكثرَ ملاءمةً لتشجيعِ التعاونِ الأخوي بين المؤمنينَ وغير المؤمنين، في منظورٍ مُشترك قِوامُهُ العملُ من أجلِ العدالَةِ والسلامِ للبشريةِ جمعاء. لقد أكَّدَ آباء المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستورِ الراعوي "فرح ورجاء" أنَّ «المؤمنينَ وغيرُ المؤمنين يتفقونَ على هذا: يجبُ أن يؤولَ كلُّ شيءٍ على هذه الأرضِ إلى الإنسانِ بإعتبارِهِ مَرجِعَ كلِّ شيءٍ وذروَتَهُ» (136). بالنسبةِ للمؤمنينَ ليسَ العالَمُ نتيجةَ الصُدفَةِ أو الضرورَةِ، بل نتيجةَ خطةِ الله. من هنا يأتي واجبُهُم لتوحيدِ جهودِهِم مع جميعِ الرجالِ والنساءِ ذوي الإرادةِ الصالحةِ، مِن الأديانِ الأخرى أو مِن غيرِ المؤمنينَ، ليكونَ عالمُنا هذا مُطابقاً في الواقِعِ للخطَّةِ الإلهيةِ الراميةِ لعيشِنا كأسرةٍ واحدةٍ، تحت نَظَرِ الخالق. هكذا يغدو مَبدأُ المؤازرةِ بين البشَرِ مَظهراً من مظاهِرِ المحبةِ ومِعياراً توجيهياً للتعاونِ الأخوي بين المؤمنينَ وغير المؤمنين (137)، بالإضافةِ لكونِهِ تَعبيراً عنحريةِ الإنسانِ غيرِ القابلةِ للإنتهاك. المؤازرةُ هي قبلَ كلِّ شيءٍ مساعدةٌ للشخصِ، من خلالِ الحُكمِ الذاتيّ للهيئاتِ الوسيطة. وهي مُساعدةٌ يتمُّ تقديمُها عندما لا يكونُ بمقدورِ الشخصِ والفعالياتِ الاجتماعيةِ العملَ بأنفسِهم، وينطوي دائماً على غاياتٍ تحرُّريةٍ، لأنه يشجِّعُ على الحريةِ والمشاركَةِ، كتحمُّلٍ للمسؤولية. تَحترمُ المؤازرةُ كرامةَ الشخصِ الذي يرى فيه بإستمرارٍ فاعلاً قادراً على تقديمِ شيءٍ ما للآخرين. كما يعترفُ هذا المبدأُ بأنَّ التبادليةَ متأصلةٌ بعمقٍ في بُنيةِ الإنسانِ. المؤازرةُ هي العلاجُ الأكثرُ فعاليةٍ لمكافحةِ جميعِ أشكالِ الرعايةِ الاجتماعيةِ ذاتِ النزعةِ الأبويَّة. لأنه يأخذُ بعينِ الاعتبارِ تعدُّدَ المستوياتِ وارتباطَها المِفصَليّ وبالتالي تعدُّدَ الفاعلينَ، بالإضافةِ للتنسيقِ بينهم. ومن ثم فإن هذا المبدأ مناسبٌ بصفةٍ خاصةٍ لقيادةِ العولمةِ والمضي بها قُدُماً نحو التنميةِ البشريةِ الحقيقية. ينبغي لحُكمِ العولمة أن يكون تآزرياً وذلك لتحاشي خلقِ قوةٍ عالميةٍ خطيرةٍ وحيدةِ القطب، وأن يكونَ متوضِّعاً على مستوياتٍ عدةٍ ويجمعُ طبقاتٍ مختلفةً تتعاونُ فيما بينها. تحتاجُ العولمة بالتأكيدِ إلى سُلطةٍ، إذ تطرحُ مشكلةَ تحقيقِ الخيرِ العام العالمي؛ إلا أنَّه على مِثلِ هذِهِ السُلطةِ أن تُنظَّمَ بطريقةٍ تآزريّةٍ ومتعدِّدة الأقطابِ (138)، وذلك لتجنُّبِ انتهاكِ الحريةِ ولتكونَ فعّالةً في تطبيقها العمليّ.

58. ينبغي لمبدإ المؤازرةِ أن يَرتبطَ بقوةٍ بمبدإ التضامنِ والعكسُ بالعكس، لأنه إذا كانَت المؤازرةُ دون التضامنِ تقعُ في فخِّ الإنحيازيَّةِ الإجتماعية، فمنِ الصحيحِ أيضاً أن التضامنَ من دونِ المؤازرة ينحطُّ إلى نزعةٍ إعانيةٍ تُذِلُّ الجهةَ المحتاجة. إنّها لَقاعدةٌ عامةٌ يجبُ أن تؤخَذَ على محملِ الجدِّ عند التعامُلِ مع القضايا المتصلةِ بالمعوناتِ الإنمائية ذات الطابعِ الدولي. فهي، بمعزلٍ عن نوايا الجهاتِ المانحةِ، يمكنُ أن تُبقي أحياناً شعباً كاملاً في حالةٍ من التبعيّةِ، بل وأن تشجِّعَ حالاتٍ من التسلّطِ المَحلّي والاستغلالِ داخلَ البلدِ المُساعَد. ينبغي للمساعداتِ الإقتصاديةِ، كي تفيَ غرضَها، أن تخلوَ من الدوافِعِ الخفية. فتُمنَحَ لا من خلالِ إشراكِ حكوماتِ البلدانِ المَعنية وحسب، بل الفعالياتِ الاقتصاديةِ المحليةِ وأعضاءِ المجتمعِ المدني المُساهمينَ في الثقافةِ أيضاً، بما في ذلك الكنائسُ المحلية. على برامجِ المساعدةِ أن تحملَ، بشكلٍ متزايدٍ، خصائصَ البرامجِ المتكاملةِ عن طريقِ المشاركةِ الشعبية. يبقى صحيحاً أن المَوردَ الأهمَّ الذي ينبغي تقديرُهُ، في البلدانِ المُحتاجة للمساعدةِ في التنميةِ، هو المَوردُ البشري: فهو رأسُ المالِ الحقيقي الذي يجبُ تنشئَتُهُ لضمانِ نموِّ البُلدانِ الأكثرِ فقراً نحو مستقبلٍ مستقلٍ حقاً. علينا أن نُذكِّر أيضاً أن الدعمَ الرئيسي الذي تحتاجُ إليهِ البلدانُ الناميةُ في الميدانِ الاقتصادي هو إعطاؤها الفرصةَ وتشجيعُها لدمجِ منتجاتِها بشكلٍ تدريجي في الأسواقِ الدولية، وبالتالي تمكينُها من المشاركةِ الكاملةِ في الحياةِ الاقتصاديةِ الدولية. لقد حدثَ في كثيرٍ من الأحيانِ أنَّ تقديمَ المعونةِ قد خَدَمَ إنشاءَ سوقٍ هامشيةٍ لا غيرُ لمنتجاتِ هذه الدول. والسببُ، في كثيرٍ من الأحيان، هو عدمُ وجودِ طلبٍ حقيقي على هذه المنتجات، فمن الضروري مساعدةُ هذه البلدانِ على تحسينِ مُنتجاتِها لتتكيَّفَ مع الطلب. غالباً ما يخشى البعضُ منافسةَ المنتجاتِ المستوردةِ – والتي عادةً ما تكونُ زراعيةً – من البلدانِ الفقيرةِ إقتصادياً. لكن ينبغي الإشارةُ إلى أن فرصةَ تسويقِ المنتجاتِ بالنسبةِ لهذه الدولِ تعني في كثيرٍ من الأحيانِ وسيلةً لضمانِ بقائِها على المدى القريبِ والبعيد. إنَّ تجارةً دوليةً في الزراعةِ قِوامُها العدلُ والتوازنُ يمكن أن تُحققَ فوائدَ للجميعِ، سواءٌ من جانبِ العرضِ أو الطلبِ. لهذا السبب، ليس ضرورياً التوجيهُ التجاري لهذه المنتجاتِ وحسب، بل وضعُ قواعدَ تجاريةٍ دوليةٍ أيضاً لتدعَمَها ولتعزِّزَ التمويلَ للتنميةِ في سبيلِ جعلِ هذه الاقتصاداتِ أكثرَ إنتاجية.

59. ينبغي للتعاونِ في سبيلِ التنميةِ ألا يشملَ البُعدَ الاقتصاديَّ وحسب؛ بل أن يكونَ فرصةً عظيمةً للقاءٍ ثقافي وإنساني. إنْ لَم ينتبه المتعاونونَ مِن البُلدانِ المتقدمةِ اقتصادياً – كما يحدُثُ في بعضِ الأحيان – للهويَّةِ الثقافيةِ الخاصةِ بهم وبالآخرين والمكوَّنَةِ مِن قيمٍ إنسانيةٍ، لا يمكنهم إقامةُ أيِّ حوارٍ عميقٍ مع مُواطني البلدانِ الفقيرة. وأمّا هذه الأخيرة فإن انفتحَت بدورِها على قَدَمِ المُساواةِ ودون تمييزٍ على أي اقتراحٍ ثقافيٍّ كانَ، فلن تكونَ في وضعٍ يُمكِّنُها من تحمُّلِ مسؤوليةِ تنميتِها الأصيلةِ (139). على المجتمعاتِ المتقدمةِ تكنولوجياً ألا تخلطَ بين تقدُّمها التكنولوجيّ وزعمِها بالتفوقٍ الثقافي، بل عليها إعادةُ البحثِ في ذاتِها لتكتشفَ فضائلَ مَنسيةً أحياناً، كانت سببَ إزدهارِها على مرِّ التاريخ. أمّا المجتمعاتُ الناميةُ فعليها أن تظلَّ وفيةً لِما هو إنسانيٌّ حقاً في تقاليدِها، وأن تتجنبَ الطغيانَ التلقائيَّ لآلياتِ الحضارةِ التكنولوجيةِ المعَولمة. إذ توجدُ في جميعِ الثقافاتِ مُقارباتٌ أخلاقيةٌ فريدةٌ ومتعددةٌ، وهي تعبيرٌ عن طبيعةِ الإنسانِ نفسِهِ التي أرادَها لَهُ الخالقُ، والتي سمَّتها حكمةُ البشرِ الأخلاقيّةُ بالشريعةِ الطبيعية (140). تُشكِّلُ هذه الشريعةُ الأخلاقيةُ العالميةُ أساساً راسخاً لكلِّ حوارٍ ثقافيٍّ ودينيٍّ وسياسيٍّ وتسمحُ لتعدُّديَّةِ الثقافاتِ المختلفةِ ألا تنفصِمَ عن البحثِ المُشترَكِ عن الحقِّ، والصلاحِ والله. كما أنَّ الخضوعَ لهذه الشريعةِ المكتوبةِ في القلوبِ هو أساسُ جميعِ أشكالِ التعاونِ الاجتماعي البَنَّاء. في جميعِ الثقافاتِ هناك أثقالٌ يجبُ التحرُّر منها وظلالٌ  ينبغي التخلُّصُ منها. أمّا الإيمان المسيحيُّ، إذ يتجسَّدُ في حدودِ الثقافاتِ ويتسامى عنها في الوقتِ ذاتِهِ، يمكنُ أن يُساعدَها على النموِّ في العيشِ المُشترَكِ والتضامُنِ العالميِّ لمصلحةِ التنميةِ الجماعيةِ والعالمية.

60. في خضمِّ البحثِ عن حلولٍ للأزمةِ الاقتصاديةِ الراهنةِ، يجبُ اعتبارُ المساعداتِ لتنميةِ الدولِ الفقيرةِ أداةً حقيقيةً لإكتسابِ الثروةِ للجميع. فأيُّ مشروعٍ إعانيٍّ يمكنُ أن يتطلَّعَ لنموٍّ للقيمةِ بهذا الحجمِ الكبيرِ – فيما يخصُّ الإقتصادَ العالميَّ أيضاً – مثلَ تقديمِ الدعمِ لشعوبٍ ما زالت في مرحلةٍ مبكرةٍ أو غيرِ متقدمةٍ من عمليةِ التنميةِ الإقتصادية؟ من هذا المنظور، سوفَ تسعى معظمُ الدولِ المتقدمةِ اقتصادياً لتخصيصِ حصةٍ أكبرَ من ناتجها المحلي الإجمالي للمساعدةِ الإنمائية، محترمةً بهذا الإلتزاماتِ التي اتُّخِذَت على مستوى المجتمعِ الدولي بشأنِ هذه القضية. بل بإمكانها فعلُ هذا أيضاً من خلالِ إعادةِ النظرِ بسياساتِ المُساعدةِ والتضامنِ الاجتماعي داخلَ كلٍّ منها، وتطبيقُ مبدإ المؤازرةِ وخلقِ نُظُمِ ضمانٍ اجتماعي أكثرَ تكاملاً، بمشاركةٍ نشطةٍ مِن الأشخاصِ ومن المجتمعِ المدني. بهذه الطريقةِ يمكنُها حتى تحسينُ الخدماتِ الاجتماعيةِ والمساعداتِ، وفي نفس الوقت، توفيرُ الموارِدِ بالقضاءِ على الهدرِ وعلى المعاشاتِ غيرِ العادلةِ في سبيلِ تخصيصِها للتضامنِ الدولي. إنَّ نظاماً للتضامنِ الاجتماعي أكثرَ مشاركةً وتوزيعاً للمهامِ، وأقلَّ بيروقراطيةً مع إبقاءِهِ على التنسيقِ، من شأنِهِ استغلالُ الكثيرِ مِن الطاقةِ، المُجمَّدَةِ حالياً، لمصلحةِ تضامنِ الشعوب.

وهناك إمكانيةٌ للمساعدةِ من أجلِ التنميةِ يُمكنُ أن تنجمَ عن التطبيقِ الفعَّال لما يُدعى بالمؤازرةِ الضريبيةِ، الذي من شأنِهِ أن يَسمحَ للمواطنينَ بإتِّخاذ قرارٍ بشأنِ غاياتِ الضرائبِ التي يدفعونَها للدولة. فإذا ما تمَّ تجنُّبُ خدمةِ المصالحِ الخاصةِ، سيكونُ هذا مفيداً لتشجيعِ أشكالِ التضامُنِ الاجتماعي، إنطلاقاً من القاعدةِ الشعبيةِ، مع فوائدَ واضحةٍ في مجالِ التضامُنِ لأجلِ التنمية.

61. يُشكِّلُ تعزيزُ فرصِ الحصولِ على التربيةِ، حتى في ظروفِ الأزمَةِ الإقتصاديةِ، تعبيراً فريداً عن التضامنِ الدولي الأوسعِ، وهو، من ناحيةٍ أخرى، أمرٌ ضروريٌّ لضمانِ فَعاليةِ هذا التعاون. أمّا مُصطَلَحُ "التربية" فلا يشيرُ فقط إلى التعليمِ أو التدريبِ المهني، بالرغم من أنهما سببان مهمّان للتنميةٍ على حدٍّ سواء، بل يشيرُ أيضاً إلى تنشئةِ الشخصِ الكاملة. وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أحَّدِ الجوانِبِ الإشكالية: على مَن يقومُ بالتربيةِ أن يعرِفَ مَن هو الشخصُ البشري وماهيّةَ طبيعتِه الحقيقية. فظهورُ وجهةِ نظرٍ نسبويةٍ تجاهَ الطبيعةِ البشريةِ، يُسبب مشاكلَ خطيرةً للتعليمِ، وخاصة للتعليمِ الأخلاقي، إذ يَخضعُ نشرُهُ عالمياً لخطرِ الأحكامِ المُسبقة. إنَّ الرضوخَ لمثلِ هذه النزعةِ النسبويةِ، يجعلُ الجميعَ أكثرَ فقراً، ويتركُ عواقبَ سلبيةً تؤثِّرُ على فعاليةِ المُساعداتِ للشعوبِ المُحتاجة، والتي لا تحتاجُ إلى مواردَ ماليةٍ أو تقنيةٍ وحَسب، بل إلى سبلٍ ووسائلَ تربويةٍ كفيلةٍ بدعمِ الشخصِ البشري في سبيلِ تحقيقِ إنسانيتهِ بشكلٍ كامل.

تتيحُ لنا ظاهرةُ السياحةِ الدولية مثالاً على أهميةِ هذه المشكلةِ (141)، فبإمكانِ السياحةِ أن تكونَ عاملاً رئيسياً في التنميةِ الإقتصاديةِ والنموِّ الثقافي، ولكن يمكنُها أن تتحوَّلَ أيضاً إلى مناسبةٍ للإستغلالِ والإنحلال الخُلُقي. يوفِّرُ الوضع الحالي فرصاً فريدةً كيما تلتحمَ الجوانبُ الإقتصاديةُ للتنميةِ – أي تدفُّقُ الأموالِ وظهورُ مشاريعَ كُبرى محلياً – مع جوانبِها الثقافيةِ، والجانِبِ التعليمي في المقامِ الأول. في كثيرٍ من الحالاتِ يتحقَّقُ هذا، ولكن في المُقابلِ هناكَ حالاتٌ أخرى عديدةٌ تُشكِّلُ فيها السياحةُ الدوليةُ ضرراً للتربيةِ، وهذا بالنسبةِ للسياحِ وللسكان المحليين على حدٍّ سواء. فغالباً ما يواجهُ سُكان البلدِ المُضيفِ سلوكياتٍ لاأخلاقيةً، أو حتى منحرفةً، كما هو الحال في ما يُدعى بالسياحةِ الجنسية، التي تُضحّي بالكثيرِ من البشرِ، حتى في سنٍّ مبكرة. من المُؤلِمِ أن نرى هذا يحدُثُ، في كثيرٍ من الأحيان، بدعمٍ من الحكوماتِ المحليةِ، مع صمتِ حكوماتِ البُلدان التي ينتمي لها السياح وبتواطؤ العديدِ من العاملين في هذا المجال. لكن حتى عندما لا يصلُ الأمر إلى هذا الحد، تتميّز السياحةُ الدولية، في كثيرٍ من الحالات، بالإستهلاكية والإستمتاعية، وبالتهرُّب من الواقع وبترتيباتٍ تعكس نماذجَ البلدانِ التي ينتمي لها السياح، فلا تُشجِّعُ على لقاءٍ حقيقي بين الشعوبِ والثقافات. ينبغي إذَن التفكيرُ في نمطٍ مختلفٍ من السياحةِ، يمكنُهُ أن يُعزِّزَ تَعارفاً حقيقياً، دون الإستغناءِ عن الراحةِ والترفيهِ السليم: يجبُ زيادةُ هذا النمطِ من السياحةِ، بفضلِ صلةٍ أوثقَ مع خبراتِ التعاونِ الدولي ومشاريع التنمية.

62. وإذ نتحدَّثُ عن التنميةِ الإنسانيةِ المُتكاملةِ، هناكَ جانبٌ آخرٌ يستحقُّ الاهتمامَ أي ظاهرةُ الهجرة. وهي ظاهرةٌ تثيرُ العَجَبَ حقاً لعددِ الناسِ المعنيين بها، وللإشكالياتِ التي تُثيرُها، اجتماعيةً كانت أم إقتصاديةً أم سياسيةً أم ثقافيةً أم دينيةً، بالإضافة للتحدياتِ الهائلةِ التي تُشكِّلُها أمامَ المجتمعاتِ المحليةِ والدولية. يمكننا القولُ بأننا نواجِهُ ظاهرةً اجتماعيةً بالغة الأهميةِ في حقبتنا، تتطلَّبُ سياسةً قويةً وبعيدةَ النظرِ في التعاونِ الدولي، لمعالجتِها معالجةً مناسِبة. سياسةٌ ينبغي أن تنطلقَ مِن التعاونِ الوثيقِ بين بلدانِ المُهاجرين وبلدانِ المَهجر؛ وأن تكونَ مصحوبةٌ بالمعاييرِ الدوليةِ المناسبةِ، القادرةِ على التوفيقِ بين مُختلفِ الأُطُرِ التشريعيَّةِ وذلك بهدفِ حمايةِ حقوقِ واحتياجاتِ الأفراد و والأُسَرِ المُهاجرةِ من جهةٍ ومجتمعاتِ المَهجر من جهةٍ أخرى. لا يوجدُ بلدٌ يمكنُهُ أن يعتبرَ نفسَهُ قادراً على التعامُلِ بشكلٍ منفرِدٍ مع مشاكِلِ الهجرة في عصرِنا. ونحن جميعاً شهودُ عيانٍ على الأعباءِ والمعاناةِ والمشقَّةِ والتطلُّعاتِ التي تُرافِقُ الهجرة. ومع أنَّ إدارةَ هذه الظاهرةِ تتَّسِمُ بالتعقيدِ كما هو معروفٌ، إلا أنهُ من المؤكَّدِ أن العمال الأجانِبَ، على الرغمِ من الصعوباتِ المرتبطةِ بتأقلُمِهم، يُسهمونَ إسهاماً كبيراً في التنميةِ الإقتصاديةِ للبلدِ المُضيفِ وذلكَ بفضلِ عملِهِم، فضلاً عما يفيدونَ به بلادَهم بواسطةِ التحويلاتِ المالية. من الواضحِ، أنه لا يمكنُ اعتبارُ هؤلاءِ العمالِ مجرَّدَ سلعةٍ أو قوةٍ مهنيّة. لذا يجبُ ألا يُعاملونَ كعوامِلَ الإنتاج الأخرى. فكلُّ مهاجرٍ هو شخصٌ بشريٌّ، ولكونِهِ كذلك فهو يملكُ حقوقاً أساسيةً لا يمكنُ التنازُلُ عنها، وينبغي احترامُها من قِبَلِ جميع وفي أي وضعٍ كان (142).

63. في مَعرِضِ حديثِنا عن مشاكلِ التنميةِ لا يُمكننا ألاّ نسلِّطَ الضوءَ على الصلةِ المُباشرَةِ بين الفقرِ والبطالةِ. الفقراءُ هم، في كثير من الحالاتِ، نتيجةٌ لإنتهاكِ كرامةِ العملِ البَشري، وهذا إمّا لمحدوديّةِ الفُرَصِ (البطالة وقلة العمل)، أو بسببِ بَخْسِ «الحقوقِ المتأتيةِ عن العملِ، وبالأخصِّ الحقِ في الأجرِ العادلِ والضماناتِ الواجبةِ للعامِلِ وأسرتِه» (143). لهذا، ومنذُ الأوَّل من أيار (مايو) 2000، أطلقَ سلَفي، يوحنا بولسُ الثاني الطوباويُّ الذِكرِ، بمناسبةِ يوبيلِ العمّال، نداءً من أجلِ «تحالُفٍ عالميٍّ في سبيلِ العَمَلِ اللائِق» (144)، مشجِّعاً استراتيجيةَ "منظمةِ العملِ الدولية". وبهذه الطريقةِ، أضفى نظرةً أخلاقيةً على هذه الغايةِ التي تصبو إليها أُسَرِ جميعِ بُلدانِ العالم. ما معنى كلمةُ "لائق" بالنسبةِ للعمل؟ هي تعني عملاً – في كلِّ مجتمعٍ – يُعبِّرُ عن الكرامةِ الجوهريةِ لكلِّ رجلٍ وامرأة: عملاً يُختارُ بحريةٍ، يجمعُ بفعاليةٍ العُمّال، رجالاً ونساءً، في سبيلِ تنميةِ مجتمعِهم؛ عملاً يؤمِّنُ، بهذه الطريقةِ، للعمالِ الإحترامَ دونَ أي تمييزٍ؛ عملاً يُلبّي احتياجاتِ العائلاتِ ويسمحُ بتعليمِ أبنائِهم دونَ أن يَضطَّرَ هؤلاءُ أنفسُهم للعملِ؛ عملاً من شأنِهِ أن يسمحَ للعمالِ بتنظيمِ أنفُسهم بِحُريةٍ وبأن يقولوا كلمتَهم؛ عملاً يترُكُ مساحةً كافيةً ليجِدَ المرءُ جذورَهُ على الصعيدِ الشخصيّ والعائليّ والروحيّ؛ عملاً يكفَلُ للعمالِ المتقاعدينَ وضعاً لائقاً.

64. وإذ نتأمَّلُ في موضوعِ العملِ، يجبُ أن نُذكِّرَ أيضاً بالحاجةِ المُلِحَّةِ لإنفتاحِ نقاباتِ العُمّالِ – التي نالَت على الدوامِ تشجيعَ الكنيسةِ ودعمَها – على الآفاقِ الجديدةِ التي تظهَرُ في مجالِ العمل. فالنقاباتُ مدعوَّةٌ لتجاوزِ حدودِها الفئويّة والإهتمامُ بالمشاكِلِ الجديدةِ في مجتمعنا. أعني، على سبيلِ المثالِ، مجموعةَ القضايا التي يُحدِّدها علماءُ الاجتماع بالصراعِ بين العاملِ والمُستَهلِك. فدونَ أن نكونَ مُضطرينَ لتبنّي الفكرةِ القائلةِ بحدوثِ عبورٍ من مركزيَّةِ العامِلِ إلى مركزيَّةِ المُستهلِكِ، نرى أن هذا يُشكِّلُ مجالاً لتجارِبَ نقابيةً متجدِّدة. يتطلَّبُ السياقُ العالميُّ، الذي يحوي النشاطَ العُمّالي، مِنَ النقاباتِ المحلّيةِ المُنشغِلَةِ في الدفاعِ عن مصالِحِ أعضائِها أن تهتمَّ بغيرِ الأعضاءِ أيضاً، وبصفةٍ خاصةٍ، بعُمّالِ البلدانِ الناميةِ، حيث غالباً ما تُنتَهَكُ حقوقُهم الاجتماعية. إن الدفاعَ عن هؤلاءِ العُمّالِ، حتى من خلالِ مبادراتٍ مناسبةٍ تجاه بُلدانِهم، يسمحُ للنقاباتِ أن تُظهِرَ الأسبابَ الحقيقيةَ الأخلاقيةَ والثقافيةَ التي سَمَحَت لهم أن يكونوا عامِلاً حاسِماً للتنميةِ حتى وإن كانَ ذلكَ في سياقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة. هنا لا يزالُ صالحاً تعليمُ الكنيسةِ التقليدي الذي يقترحُ تمييزاً في الأدوارِ والمَهامِ بين كلٍّ من النقابةِ والسياسة. تمييزٌ يسمحُ للنقاباتِ بأن تجدَ في المجتمعِ المدني المجالَ الأنسَبَ لنشاطِها في حمايةِ عالمِ العملِ ودعمِهِ، وخاصةً في صالِحِ العُمّال غير الممثَّلين والمستغَلين، الذين غالباً ما يتجاهلُ المجتمعُ وضعَهم المرير.

65. ينبغي أيضاً على التمويل، كي يقوم بمهمَّته في إطارِ البُنى وطرق التشغيل الواجب تجديدها بعد سوء استخدامها الذي أضرَّ بواقع الإقتصاد، أن يعودَ ليكونَ أداةً تهدفُ لتحسينِ إنتاج الثروة والتنمية. يجبُ على جميعِ قطاعاتِ الإقتصادِ والماليّةِ، وليس بعضها فقط، بإعتبارها أدواتٍ، أن تُستَخدَمَ بطريقةٍ أخلاقيةٍ فتُهيِّأَ الظروفَ المناسبةَ لتنميةِ الإنسانِ والشعوب. فمن المؤكَّدِ أن القيامَ بِمُبادراتٍ ماليةٍ يَطغى عليها البُعد الإنسانيُّ هو أمرٌ مفيدٌ لا بل وضروري أحياناً. لكن يجب ألا ننسى أنَّ النِظامَ الماليَّ بأكملِهِ ينبغي أن يكونَ مصمماً لدعمِ تنميةٍ حقيقية. ومن الضروري، قبلَ كلِّ شيء، ألا تُعتَبَرَ نيةُ فعلِ الخيرِ أمراً مُناقضاً للقدرةِ الفعليةِ على إنتاجِ السلع. على شركاتِ التَمويلِ أن تُعيدَ إكتشافَ الأساسِ الأخلاقيِّ لعملِها، حتى لا تُسيءَ استعمالَ الأدواتِ المتطورةِ التي يُمكنُها أن تُستَخدَمَ لخيانةِ المُدَّخرين. فالنيةُ الصالحةُ والشفافيةُ والبحثُ عن نتائجَ جيدةٍ هي أمورٌ متوافقةٌ ولا ينبغي أبداً فصلُها عن بعضها البعض. فالمحبةُ لكونِها ذكية تَعرِفُ إيجادَ السبُلِ للعملِ بحسبِ تعايُشٍ عادلٍ وبعيدِ النظرِ، كما تُظهرُ إلى حدٍّ كبيرٍ العديدُ من التجاربِ في حقلِ الإتحادات الإئتمانيّة.

يُعدُّ كلٌّ مِن تنظيمِ هذا القَطََّاع لحمايةِ الأضعَفِ ولمَنعِ المُضاربات الفاحشةِ وتجريبِ أشكالٍ جديدةٍ من التمويلِ لتسهيلِ المشاريع الإنمائيةِ، تجربةً إيجابيةً تستحقُّ المثابرةَ والتشجيعَ، بتحمُّلِ ذاتِ مسؤوليةِ المُستثمِر. حتى تجربةُ التمويلِ الصغيرِ، التي تجدُ جذورَها في تأمُّلاتِ وأعمال دعاةِ الأَنسنةِ المتحضّرين – هنا أفكُّرُ بشكلٍ خاص بنشوءِ "مصارف الرحمة" [د] - ينبغي تعزيزُها وتطويرُها، وخاصةً في هذه الأوقاتِ التي تتحوَّلُ فيها المشاكلُ الماليةُ إلى واقعٍ مأساويّ في حياةِ العديدِ من الفئاتِ الأكثرِ ضعفاً من السكان، الذين يجبُ حمايتُهُم من مخاطِرِ الرِّبا واليأس. ينبغي أن يتعلّمَ الضعفاءُ حمايةَ أنفسِهِم من الرِّبا، كما تتعلّمُ الشعوبُ الفقيرةُ الإستفادةَ من القروضِ الصغيرةِ، مما يؤدي لإعاقةِ أشكالِ الاستغلالِ المُمكنة في هذَين المجالَين. ذلك أنه تتواجَدُ، حتى في البلدانِ الغنيةِ، أشكالٌ جديدةٌ من الفقرِ، والتمويلُ الصغيرُ يمكنُهُ تقديمَ مساعداتٍ ملموسةً لخلقِ مبادراتٍ ومجالاتٍ جديدةٍ لصالِحِ شرائحِ المجتمعِ الضعيفةِ حتى في مرحلةِ افتقارٍ مُحتملٍ له.

66. لقد عملَ الترابطُ العالميُّ على ظهورِ سُلطَةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، أي سُلطةِ المُستهلِكين وجمعياتِهم. إنها لظاهرةٌ ينبغي دراستُها بتعمُّقٍ، فهي تحتوي على عناصرَ إيجابيةٍ علينا تشجيعُها وتجاوزاتٍ علينا تفاديها. إنه لأمرٌ جيدٌ أن يُدركَ الناسُ بأن عمليةَ الشراءِ هي فِعلٌ أخلاقيٌّ عدا كونِهِ اقتصادي. لذا فعلى المُستهلِك مسؤوليةٌ اجتماعيةٌ دقيقةٌ، ترافقُ المسؤوليةَ الاجتماعيةَ للشركات. ينبغي تربيةُ المستهلكينَ بإستمرارٍ (145) لتأديةِ دورِهِم اليومي بإحترامِ المبادئ الأخلاقيةِ، دون التقليلِ من شأنِ العقلانيّة الإقتصاديةِ الكامنةِ في فعلِ الشراء. في مجالِ المُشتريات أيضاً، وخصوصاً في بعضِ الأزمنةِ كتلكَ التي نعيشُها حالياً حيث تتعرَّضُ القوةُ الشرائيةُ لإمكانيةِ التقلُّصِ ويغدو الإستهلاكُ أكثرَ تقشُّفاً، يجب اتّباعُ أساليبَ جديدةً: على سبيلِ المثال تطبيقُ أشكالِ تعاونٍ على الشراء مثل التعاونياتِ الاستهلاكيةِ، التي نشأَتْ منذُ القرنِ التاسِعِ عشر بفضلِ المسيحيين الكاثوليك. علاوةً على ذلكَ، ينبغي تشجيعُ أشكالٍ جديدةٍ من التسويقِ لمنتجاتِ المناطِقِ المحرومةِ من العالَمِ، لضمانِ أجورٍ لائقةٍ للمُنتجينَ، شريطةَ أن يتمتّعَ السوقُ بشفافيةٍ حقيقيةٍ، وألا يحصلَ المصنِّعونَ على أرباحٍ أكبرَ وحسب بل وأيضاً على المزيدِ منَ التدريبِ والكفاءةِ المهنيةِ والتقنيةِ، وأخيراً ألا ترتبطَ بتجاربَ التنميةِ الاقتصاديةِ هذه وجهاتُ نظرٍ أيديولوجية. فنحنُ نأملُ أن يكونَ دورُ المستهلكينَ الفعّالَ – عندما لا يكونون هم أنفسهم ضحيةَ تلاعبِ جماعاتٍ لا تقومُ بتمثيلهِم حقاً – عاملاً للديمقراطية الإقتصادية.

67. أمامَ جموحِ الترابطِ العالميِّ المتنامي، هناكَ شعورٌ قوي، حتى في حالةٍ من الركودِ العالمي، بالضرورةِ المُلِحَّةِ لإصلاحِ هيئةِ الأممِ المتحدةِ والهيكلِ الدوليّ للإقتصادِ والمال، حتى يتحقَّقَ بشكلٍ ملموسٍ مفهومُ "أسرة الأمم". كما أن هناكَ شعورٌ أيضاً بضرورةٍ مُلِحَّةِ لإيجادِ طُرُقٍ مبتكرةٍ لتنفيذِ مبدإ "مسؤوليةِ الحماية" (146) ولإعطاءِ الدوَلِ الأشدِّ فقراً دوراً فعّالاً في إتّخاذِ القراراتِ المشتركة. يبدو هذا ضرورياً في سبيلِ نظامٍ سياسي وقانوني واقتصادي يُسهِمُ في زيادةِ التعاونِ الدولي وتوجيهِهِ نحوَ تنميةٍ تضامنيةٍ لجميعِ الشعوب. هناك حاجةٌ عاجلةٌ لسُلطةٍ سياسيةٍ عالميةٍ، كتلكَ التي رسمَ خطوطَها الأولى سلفي الطوباوي يوحنا الثالثُ والعشرون، وذلك من أجلِ قيادةِ الإقتصادِ العالميّ؛ وإعادةِ تأهيلِ الإقتصاداتِ المتأثِّرة بالأزمَةِ، لمنعِ تفاقُمِها وتفاقُمِ ما يترتَّبُ عليها من خلَلٍ؛ ولتحقيقِ نزعِ سلاحٍ تامٍّ ومُلائمٍ والأمنِ الغذائي والسلامِ؛ ولضمانِ حمايةِ البيئةِ وتنظيمِ تدفقاتِ الهجرة. هذه السُلطةُ يجبُ أن يحكُمَها القانونُ، وذلك بما يتفقُ مع مبادئ المؤازرَةِ والتضامُنِ، وأن تكونَ موجَّهَةً لتحقيقِ الخيرِ العام (147)، والمشاركَةِ في تحقيقِ تنميةٍ بشريةٍ مُتكاملَةٍ أصيلةٍ، مُستوحاةٍ من قِيَمِ المحبةِ في الحق. وأن يكونَ مُعترَفاً بها من قِبَلِ الجميعِ، وتتمتعُ بسلطةٍ حقيقيةٍ لتضمنَ للجميعِ الأمنَ ومراعاةَ العدالةِ واحترامَ حقوقِ الإنسان (148). ويجبُ أن تتمتعَ طبعاً بالحقِّ في فرضِ قراراتِها على أطرافِها، فضلاً عن التدابيرِ المنسَّقةِ التي تتخذُها مختلفُ المحافِلِ الدولية. فتعذُّرُ ذلك، يؤدي إلى خضوعِ القانونِ الدولي لتوازناتِ الأطرافِ الأقوى، على الرغمِ من التقدُّمِ الكبيرِ المُحرَزِ في مختلَفِ المجالات. يتطلّبُ كلٌّ مِن تنميةِ الشعوبِ المتكاملةِ والتعاونِ الدوليِّ إنشاءَ نظامٍ دولي ذي درجةٍ أعلى، يعملُ على مؤازرةِ حكومةِ العولمةِ (149) وتنفيذَ نظامٍ اجتماعي مُطابقٍ للنظامِ الأخلاقي، بالإضافةِ للتوافُقِ بين المجالَين الأخلاقي والإجتماعي، وبين السياسةِ والمجالِ الإقتصادي والمَدَني، كما هو منصوصٌ عليهِ في ميثاقُ الأممِ المتحدة.

 

الفصل السادس

تنمية الشعوب والتقنية


68. يرتبطُ موضوعُ تنميةِ الشعوبِ ارتباطاً وثيقاً بتنميةِ كلِّ إنسانٍ على حِدا. فالشخصُ البشريُّ يميلُ بطبيعتهِ وبشكلٍ حيويٍّ ليحقِّق نموَّه الذاتي. وهنا لا أقصُدُ النموَّ الذي تكفلُهُ الآلياتُ الطبيعيةُ، لأنَّ الجميعَ يعلمُ بأنهُ قادرٌ على إتِّخاذ قراراتٍ حُرَّةٍ ومسؤولَة. كما أني لا أتحدَّثُ عن النموِّ الخاضعِ للأهواءِ الشخصيةِ، إذ نعلَمُ جميعاً أن كيانَنا هو عطيةٌ ولا ينتجُ عن عملٍ ذاتي. كيانُنا، بكلِّ محدوديّاتِهِ، هو الذي يُشكِّلُ بُنيةَ حريَّتِنا أصلاً. لا أحَّدَ منّا يُشكِّلُ ضميرَهُ اعتباطياً، إنما يَبني الجميعُ أنفسَهُم على أساسِ ذاتٍ قد أُعطيَت لهم مُسبقاً. ليسَ "الآخرون" فقط أشخاصاً لا يُمكن التلاعبُ بهم، بل وحتى نحنُ أنفسُنا لا يمكنُنا التلاعب بذواتِنا. فتنميةُ الشخصِ تتدهوَرُ إذا أدّعى أن يكونَ المُبدِعَ الوحيدَ لذاتِه. وبالمثلِ، فإن تنميةَ الشعوبِ يُصيبها الإنحطاطُ إذا إدَّعَت البشريةُ بقُدرتِها على "إعادةِ خلقِ" ذاتِها بواسطَةِ "عجائِبِ" التكنولوجيا. تماماً كما ثبتَ وهميَّةُ التنميةِ الإقتصاديةِ وضرَرُها إذا ما اعتمدَت على "معجزاتِ" التمويلِ لدعمٍ نموٍّ غيرِ طبيعيٍّ وذي سمةٍ استهلاكية. أمامَ هذه الإبداعيَّةِ المزعومةِ، علينا أن نعزِّزَ محبةَ الحريةِ لا بشكلِها الإعتباطي، بل بسِمتها الإنسانيةِ التي تعترفُ بالصلاحِ الذي يسبقها. من الضروري إذن، لتحقيقِ غايةٍ كهذه، أن يسبرَ المرءُ أعماقَ نفسِهِ ليتعرَّفَ على القواعِدِ الأساسيةِ للشريعةِ الأخلاقيةِ الطبيعيةِ التي سطَّرها اللهُ في قلبِه.

69. ترتبطُ مشكلةُ التنميةِ، في أيامِنا، ارتباطاً وثيقاً بالتقدُّمِ التكنولوجي، مع تطبيقاتِهِ المُذهِلة في المجالِ البيولوجي. أودُّ أن أشدِّدَ على أنَّ التقنيةَ في عمقِها أمرٌ إنسانيٌّ، يرتبطُ بإستقلاليةِ الإنسانِ وحريتِه. فالتقنيةُ تُظهِرُ وتؤكِّدُ سيادةَ الروحِ على المادّة. والروحُ «إذ يغدو "أقلَّ عبوديةً للأشياءِ، يمكنُهُ بسهولةٍ أن يسموَ فيسجدَ للخالقِ ويتبصَّرَه"» (150). والتقنيةُ تسمحُ بالسيطرةِ على المادّةِ، والحدِّ من المَخاطرِ، وتوفيرِ العَناءِ، وتحسينِ ظروفِ المَعيشة. إنها تتوافَقُ مع دعوةِ العملِ البشري: بما أنَّ التقنيةَ هي عملُ عبقريةِ الإنسانِ، بها يُدرِكُ المرءُ ذاتَهُ ويحقِّقُ إنسانيَّتَه. التقنيةُ هي الجانبُ الموضوعيُّ للنشاطِ البشري (151)، الذي يتجذَّرُ في ذاتِ الإنسانِ ومنها يتّخذُ علّةَ وجودِه: فالإنسانُ هو الذي يصنَع. لهذا فالتقنيةُ ليست أبداً مجرَّدَ تقنية. بل هي تكشُفُ الإنسانَ وطموحاتِهِ من أجلِ التنميةِ، وتُعرِبُ عن السعي الكامِنِ في روحه البشريةِ للتغلُّبِ التدريجيّ على ظروفٍ ماديةٍ مُعينة. وهي تندرِجُ في سياقِ رسالةِ الإنسانِ في "فلاحةِ الأرضَ وحراستِها" (راجع تك 2: 15)، التي عهدَ بها الله إلى الإنسانِ، ويجبُ توجيهُها لتُعزِّزَ العهدَ بين البشرِ والبيئة، الذي ينبغي لهُ أن يكونَ مرآةً لمحبَّةِ اللهِ الخالق.

70. يمكنُ أن يؤدي النموُّ التقنيُّ إلى فكرةِ الاكتفاءِ الذاتيّ، حيثُ يتساءَلُ الإنسانُ عن "الكيفياتِ" فقط، دون النظرِ في الغاياتِ العديدةِ التي تدفعُهُ للعمل. لهذا السببِ تتَّخِذُ التقنيةُ وجهاً غامضاً. فهي إذ تنجُمُ عن الإبداعِ البشري كوسيلةٍ لممارسةِ الحريةِ الشخصيةِ، يمكنُ أن تُفهَمَ على أنها عنصرُ حريةٍ مُطلَقَةٍ، حريةٍ لا تحترمُ الحدودَ التي تحمِلُها الأشياءُ في ذواتِها. يمكنُ لعمليةِ العَولمةِ أن تُحِلَّ التقنيةَ مَحَلَّ الأيديولوجية (152)، بعدَ أن صارَت هي نفسُها قوةً أيديولوجيةً، من شأنِها أن تضَعَ البشريةَ في خطرِ الأحكامِ المُسبَقة دونَ أن تُتيحَ لها الخروجَ من ذاتِها لتلتقيَ الكيانَ والحقيقة. في هذه الحالةِ، سنعرِفُ جميعاً أوضاعَ حياتِنا ونُقيِّمُها ونقرِّرُها مِن خلالِ أفقٍ ثقافيٍّ تكنوقراطيّ، سننتمي إليهِ بُنيَوياً، دون أن نتمكَّنَ من إيجادِ معنى للأشياء لَمْ نُنتِجُهُ بأنفسِنا. تُقوّي هذهِ الرؤيةُ، في عصرنا، عقليةَ النزعةِ التقنيةِ، لدرجةِ أنها تَعتبرُ الحقيقةَ وكلَّ ما يمكنُ صنعُهُ أمراً واحداً. إلا أنه عندما تُشكِّلُ الكفاءةُ والفائدةُ المعيارَ الوحيدَ للحقيقةِ، تنتفي التنميةُ تلقائياً. فالتنميةُ الحقيقيةُ لا تكمُنُ بشكلٍ رئيسي في التصنيع. لأنَّ مفتاحَ التنميةِ هو الذكاءُ القادرُ على التفكُّرِ في مدلولِ التقنيةِ وعلى إدراكِ المعنى الإنساني الكاملِ للعملِ البشري، في أفقِ معنى الشخصِ بمُجمَلِ كيانِه. حتى عندما يعملُ المرءُ من خلالِ الأقمارِ الصناعيةِ أو بواسطةِ نبضٍ إلكترونيٍّ يتحكمُ بهِ عن بُعد، فإن عملَهُ يبقى دائماً عملاً إنسانياً، يعبِّرُ عن حريتهِ المسؤولة. تَجذُبُ التقنيةُ الإنسانَ بقوةٍ، لأنها تزيلُ قيودَهُ الماديةَ وتُوسِّعُ آفاقَه. لكنَّ الحريةَ الإنسانيةَ تكونُ ذاتَها حقاً حين تستجيبُ لسحرِ التقنيةِ من خلالِ قراراتٍ ناشئةٍ عن المسؤوليةِ الأخلاقية. من هنا الحاجةُ المُلِحَّة للتنشئةِ على المسؤوليةِ الأخلاقيةِ في استخدامِ التقنيات. فإنطلاقاً من سحرِ التقنيةِ الذي يجذبُ الإنسانَ، علينا استعادةَ المعنى الحقيقيَّ للحريةِ، التي لا تكمُنُ في نشوةِ الإستقلاليةِ التامةِ، بل في الإستجابةِ لنداءِ الكيان، بدءاً من كيانِنا نفسِه.

71. إنَّ إمكانيةَ حَيَدانِ العقليَّةِ التقنيةِ عن مجراها الإنسانيِّ الأصليِّ قد أصبَحَ واضحاً اليومَ في ظواهِرِ تقنَنَةِ التنميةِ والسلام. غالباً ما يُنظَرُ إلى تنميةِ الشعوبِ على أنَّها مسألةُ هندسةٍ ماليةٍ، وفتحِ أسواقٍ، وإلغاءِ رسومٍ، واستثمارٍ إنتاجي، وإصلاحٍ مؤسَّساتي، أي أنها لا تُعتَبَرُ، في نهاية المطاف، سوى مشكلةٍ تقنية. بالرغم من أنَّ جميعَ هذه المجالاتِ تتمتَّعُ بأهميةٍ كبيرةٍ، علينا أن نسألَ أنفسَنا: لماذا لَم تنجحِ الخياراتُ التقنيةُ حتى الآنَ إلا بنسبةٍ ضئيلة؟ علينا أن نبحَثَ عن السببِ على مستوى أعمق من ذلك. فلَن نضمَنَ أبداً التنميةَ من خلالِ قوى آليةٍ إلى حدٍ ما وغيرِ شخصيةٍ، حتى لو كانت سوقاً أو سياسةً دولية. التنميةُ مستحيلةٌ بدونِ أناسٍ مستقيمينَ، بدونِ متعامِلينَ إقتصاديينَ وسياسيينَ يَعونَ في ضمائِرِهِم بقوةٍ الدعوةَ إلى الخيرِ العام. هناكَ حاجةٌ للإعدادِ المهني وللتوافِقِ الأخلاقيِّ على حدٍّ سواء. إذا ما سادَ استبدادُ التقنيةِ سينتجُ خلطٌ بين الغاياتِ والوسائلِ، وسيَعتبرُ المستثمرُ الحصولَ على أقصى قدرٍ من أرباحِ الإنتاجِ معياراً وحيداً للعملِ؛ شأنُهُ شأنُ السياسيِّ الذي سيرى مِعياره في تثبيتِ سُلطَتِهِ، كما العالِمُ في اكتشافاتِه. وهكذا غالباً ما يستمرُّ، تحتَ مظاهرِ العلاقاتِ الإقتصاديةِ أو الماليةِ أو السياسيةِ، وجودُ سوءِ فهمٍ ومصاعبَ ومظالم؛ وإذ يتزايدُ تدفُّقُ المعرفةِ التقنيةِ، تبقى هذه تخدمُ مصلحةَ أصحابها، في حين أنَّ الوضعَ الحقيقيَّ للناس الذين يعيشونَ تحتَ هذه التدفّقات وغالباً ما يجهلونها، يبقى على حالِهِ، مع إنعدامِ إمكانيةِ التحرُّرِ الحقيقية.

72. وحتى السلامَ أحياناً يواجهُ خطرَ اعتبارِهِ نتاجاً تقنياً، أي ثمرةَ الإتفاقاتِ بين الحكوماتِ أو مُبادراتٍ لضمانِ فعاليةِ المُساعداتِ الإقتصادية لا غير. صحيحٌ أنَّ بِناءَ السلامِ يتطلَّبُ نسيجاً مُستمراً من الإتصالاتِ الدبلوماسيةِ، والمبادلاتِ الإقتصادية والتقنية، واللقاءاتِ الثقافيةِ، والإتّفاقاتِ على مشاريعَ مُشتركةٍ، فضلاً عن الإلتزامِ المُشترك لمواجهَةِ خطَرِ الحُروبِ ونزعِ جذورِ الإغراءاتِ الإرهابيةِ الحالية. ومع ذلك مِن الضروريِّ أن تعتَمِدَ هذه الجهودُ، في سبيلِ ديمومتها، على قيمٍ متجذرةٍ في حقيقةِ الحياة. هناكَ حاجةٌ للإصغاء لصوتِ الشعوبِ المَعنيةِ والنظَرِ لِحالِها لتأويلِ تطلُّعاتِها تأويلاً مُلائماً. ينبغي الإنسجامُ مع الجهودِ التي يبذلُها العديدُ من الناسِ المجهولينَ لدعمِ اللقاءِ بين الشعوبِ وتعزيزِ التنميةِ القائمةِ على المحبةِ والتفاهُمِ المتبادل. من بين هؤلاءِ هناكَ أيضاً مؤمنونَ مسيحيون، يساهمونَ في إنجاز هذه المُهمَّةِ الكُبرى، أي إضفاءُ معنى إنسانياً على التنميةِ والسلام.

73. إنَّ زيادةَ انتشارِ وسائِلِ الإعلامِ لمرتبطةٌ هي أيضاً بالتنمية. فيكادُ يكونُ من المستحيلِ لنا أن نتصوَّرَ وجودَ الأسرةِ البشريةِ بدونِها. وهي متجسدةٌ، بالخير أو بالشرِّ، في حياةِ العالمِ، ويبدو حقاً أنَّ مَن يدَّعي حيادَها، مُطالباً بالتالي بإستقلاليتِها عن الأخلاقياتِ التي تمسُّ الأشخاصَ، يتّخذُ موقفاً عبثياً. غالباً ما تُشجِّعُ وجهاتُ النظرِ هذه، التي تؤكِّدُ على الطبيعةِ التقنيةِ البحتةِ لوسائلِ الإعلامِ، على تبعيَّتِها للحساباتِ الإقتصاديةِ، وعزمِها للسيطرَةِ على الأسواقِ، وليس آخراً، رغبتِها في فرضِ معاييرَ ثقافيةٍ تخدمُ مشاريعَ سُلطَةٍ أيديولوجيةٍ وسياسية. ونظراً لأهميةِ هذه الوسائلِ في تغييرِ الطرُقِ التي يُدرَكُ ويُفهَم فيها واقعُ الشخصِ البشري، يغدو من الضروريّ التفكيرُ ملياً في نفوذها وخاصةً على البُعدِ الأخلاقي/الثقافي للعَولمةِ، وعلى تنميةِ الشعوبِ التضامنية. على نفس النحوِ الذي تقتضيه الإدارةُ السليمةُ للعَولمةِ والتنميةِ، ينبغي البحثُ عن معنى وسائلَ الإعلامِ وغايتَها إنطلاقاً من أساسِها الأنثروبولوجي. هذا يعني أنها يمكن أن تُشكِّلَ فرصةً للأنسنةِ، ليسَ فقط عندما توفِّرُ المزيدَ من إمكانياتِ الإتصالِ وتناقُلِ المعلوماتِ بفضلِ التطوِّرِ التقني، بل ولا سيّما عندما تكونُ منظمةً وموجَّهةً في ضوءِ مفهومٍ للشخصِ وللخيرِ العام يعكسُ قيمتَهما العالمية. لا يمكنُ لوسائِلِ الإعلامِ الترويجُ للحريةِ وعَولمَةُ التنميةِ والديمقراطيةِ للجميعِ، لمجرَّدِ أنها تضاعفُ من إمكانيةِ الترابطِ وتبادُلِ الأفكار. فلكي تتحقَّقَ هذه الأهداف، من الضروري أن تركزَ وسائلُ الإعلامِ على تعزيز كرامةِ الأشخاصِ والشعوبِ، وأن تُحييها المحبةُ بوضوحٍ، وأن تخدُمَ الحقيقةَ والخيرَ والأخوَّة الطبيعيةَ والفَوطبيعية. فالحريةُ الإنسانيةُ ترتبطُ جوهرياً بهذه القِيَمِ العُليا. يمكنُ لوسائلِ الإعلامِ أن تكونَ عوناً كبيراً لزيادةِ تواصُلِ الأسرةِ البشريةِ وأخلاقياتِ المجتمعِ، إذا ما تحوَّلَت لأدواتٍ لتعزيزِ المشاركَةِ العالميةِ في سبيلِ البحثِ المُشترَكِ عن البِرِّ.

74. هناكَ في عصرِنا ميدانٌ رئيسيٌّ وحَرِجٌ تجري فيهِ المعركةُ الثقافيةُ بين استبدادِ التقنيةِ ومسؤوليةِ الإنسانِ الأخلاقيةِ، ألا وهو أخلاقياتُ علمِ الأحياء، فيه تغدو إمكانيةُ تحقيقِ تنميةٍ بشريةٍ متكاملةٍ أمراً واقعاً. هنا نتطرّقُ لمجالٍ حاسمٍ وبالغِ الحساسيةِ، يطرحُ علينا بقوةٍ هائلةٍ سؤالاً أساسياً: هل يُنتِجُ الإنسانُ نفسَهُ بنفسِهِ أم أنَّهُ يعتمدُ على الله؟ تبدو الإكتشافاتُ العلميةُ في هذا المجالِ وما تتيحُ من فُرَصٍ لتدخُّلٍ تقنيٍّ، واقعاً بالغَ التطوُّرِ، لدرجةِ أنه يفرِضُ علينا الإختيارَ بين نمطَينِ من العقلانية: الأولى تعتقدُ بأن العقلَ منفتحٌ على المُتسامياتِ أما الثانيةُ فتعتبرُهُ متقوقعٌ في المادّيات. نحنُ أمامَ خيارَين حاسِمَين لا يُمكنُ التوفيقُ بينهما. أمّا العقلانيةُ القائلةُ بأنَّه على النشاطِ التقني أن يتمَحوَرَ حولَ ذاتِهِ، فقد ثبَتَت لاعقلانيّتها، ذلك لأنها تنطوي على رفضٍ قاطعٍ للمعنى وللقِيم. ليسَ غريباً أن يواجهَ رفضُ المُتسامياتِ صعوبةً في التفكيرِ في كيفيةِ بروزِ الكيانِ من العَدَم، وكيفيةِ ظهورِ الذكاءِ بمحضِ الصُدفة (153). لإيجادِ حلولٍ لهذه المشاكلَ الجسيمةِ، يتعاونُ العقلُ والايمانُ معاً. معاً فقط نستطيعُ أن نُخلِّصَ الإنسان. فالعقلُ بدونِ الإيمانِ، إذ يجذبه النشاطُ التقنيُّ المحضُ، قد قُدِّرَ له أن يتيهَ في وهمِ قدرتِهِ على كلِّ شيء. والإيمانُ بدون العقلِ يُخاطِرُ بالإغترابِ عن حياةِ البشَرِ الواقعية (154).

75. لقد سبقَ وأدركَ بولسُ السادسُ الأفقَ العالميَّ للمسألةِ الإجتماعيةِ وأشارَ إليه (155). وإذ نحذو اليومَ حذوَه، علينا أن نؤكِّدَ أن المسألةَ الإجتماعيةَ قد أصبحَت بشكلٍ جذري مسألةً أنثروبولوجيةً، بمعنى أنها لا تنطوي على طريقةِ فهمِنا للحياةِ وحسب، بل وعلى تلاعبنا بها أيضاً، إذ تغدو، بفضلِ التكنولوجيا الحيوية، موضوعةً أكثرَ وأكثرَ في يدِ الإنسان. ففي ثقافةِ الإدراكِ الراهنةِ، قد نشأت تقنياتُ الإخصابِ في المُختبَرِ وبحوثُ الأجنَّةِ، وإمكانيةُ الإستنساخِ والتهجينِ البشريَين، ويتمُّ حالياً الترويجُ لها في ثقافةٍ تعتقدُ أنها قد كشفَت جميعَ الأسرارِ، لأنها توصَّلَت إلى جذورِ الحياة. هنا يجدُ استبدادُ التقنيةِ أعلى تعبيرٍ له. يعتقدُ هذا النوعُ من الثقافةِ أنه على الضميرِ أن يعيَ الإمكانياتِ التقنيةِ لا غير. ومع ذلك لا يمكنُنا التقليلُ من شأنِ الأحداثِ المُقلِقةِ بالنسبةِ لمستقبلِ الإنسانِ ومن أهميةِ الأدواتِ الجديدةِ القديرةِ التي في حوذةِ "ثقافة الموت". في المستقبلِ هناكَ إمكانيةٌ واقعيةٌ، لها منذُ الآنِ بذورٌ خفيةٌ، في أن يُضافَ على آفةِ الإجهاضِ المأساويةِ تخطيطٌ منهجيٌّ لتحسينِ النَسل. على الجانبِ الآخرِ، يستمرُّ "الموت الرحيم" في شقِّ طريقِه نحوَ العقليةِ الراهنةِ، وهو يُعبِّرُ عن سيطرةٍ على الحياةِ لا تقلُّ إساءةً عن السابقةِ، لأنها تعتبرُها غيرَ جديرةٍ بأن تُعاشَ في ظلِّ ظروفٍ معينة. تكمنُ وراءَ هذه الأحداثِ مواقفٌ ثقافيةٌ تنكرُ كرامةَ الإنسان. وتقومُ هذه الممارساتُ بدورِها بتعزيزِ مفهومٍ ماديِّ وآليِّ للحياةِ البشرية. مَن يستطيعُ يا تَرى قياسَ الآثارِ السلبيةِ المترتبةِ على مثلِ عقليةِ التنميةِ هذه؟ ولمَ تُذهلُنا اللامبالاةُ تجاه تدهورِ الأوضاعِ الإنسانية، إن كُنا لا نبالي بالتفريق بين ما هو إنسانيّ وما هو ليس كذلك؟ إنَّ ما يثيرُ استغرابَنا بالفعلِ هو ما يحدُثُ في عصرِنا من إنتقائيةٍ تعسُّفيةٍ للأشياءِ التي تستوجبُ الإحترام. الكثيرونَ يُصدَمونَ لأمورٍ هامشيةٍ بينما يتسامَحونَ مع مظالمَ عجيبة. في حينِ ما زالَ فُقراءُ العالمِ يطرقونَ على أبوابِ الباذخينَ، يُخاطِرُ العالمُ الغنيُّ بألاّ يسمعَ الطَرَقاتِ على بابِهِ، بسببِ ضميرِهِ العاجزِ عن إدراكِ الإنسان. اللهُ يكشُفُ الإنسانَ للإنسانِ؛ والعقلُ والإيمانُ يعملانِ معاً على إرشادِهِ لطريقِ الخيرِ، إذا ما أرادَ هو أن يُبصرَه؛ فالشريعةُ الطبيعيةُ، التي تعكسُ ضياءَ عقلِ الله الخالقِ، لا تُبيِّنُ عظمةَ الإنسانِ وحسب، بل وبؤسَهُ أيضاً، عندما يتجاهَلُ دعوةَ الحقيقةِ الأخلاقية.

76. يتَّضحُ أحَّدُ جوانبِ الروحِ التقنيةِ الحديثةِ، في الميلِ للنظَرِ إلى المشاكلِ والعواطفِ المرتبطَةِ بالحياةِ الباطنيةِ، مِن وجهةِ نظرٍ نفسيةٍ لا غير، وصولاً إلى اختصارِها بالمُسبِّبات العصبية. هكذا تُفَرَّغُ حياةُ الإنسانِ الباطنيةِ، ويتبَدَّدُ تدريجياً الوعيُ لقِوامِ النفسِ البشريةِ الأونطولوجي، وأعماقِها التي تَمكَّنَ القديسونَ من سبرِها. ترتبطُ مشكلةُ التنميةِ بشدةٍ مع مفهومِنا للنفسِ البشريةِ، وذلك لأنه غالباً ما يُختصَرُ "الأنا" بالبُعدِ النفسيِّ وتختلِطُ الصحةُ النفسيةُ مع رفاهِ المشاعِر. تنبعُ هذه النظرةُ الضيِّقةُ من سوءِ فهمٍ عميقٍ للحياةِ الروحيةِ، وتؤدي إلى إنكارِ أنَّ تنميةَ الإنسانِ والشعوبِ تتوقَّفُ أيضاً على حلِّ المشاكِلِ ذات الطابعِ الروحي. ينبغي للتنميةِ أن تشمَلَ نمواً روحياً بالإضافةِ للنموِّ الماديّ، لأن الإنسانَ هو «وَحدةُ نفسٍ وجسد» (156)، وُلِدَت من محبةِ الله الخلاّقة، وقُدِّرَ لها أن تعيشَ إلى الأبد. ينمو الكائنُ البشري عندما ينمو في الروح، وعندما تَعرِفُ نفسُهُ ذاتَها والحقائقَ التي طبعَ اللهُ بذورَها فيها؛ وعندما يتحاوَرُ الإنسانُ مع نفسِهِ ومع خالِقِه. فالإنسانُ في بُعدِهِ عن الله يبقى مضطرباً ومريضاً. الكثيرُ من الإختلالاتِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ تنجُمُ، شأنها شأنَ العديدِ من أمراضِ العُصاب التي تميِّزُ المجتمعات الغنية، عن أسبابٍ روحية. إنَّ مجتمعاً رفاهياً، به تطورٌ ماديٌّ ولكنه يخنقُ النفسَ، لا يسيرُ نحوَ التنميةِ الحقيقية. فأشكالُ العبوديةِ الجديدةِ كالمُخدِّراتِ واليأسِ، التي يسقطُ ضحاياها العديدُ من الناسِ، لا تجدُ عِلاّتها في التفسيراتِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ فقط، بل في تلك الروحيةِ أساساً. إنَّ الفراغَ الذي تختبرُهُ النفسُ في عزلتِها، على الرغمِ من وجودِ العديدِ من العِلاجاتِ الجسديةِ والنفسيةِ، يجعلُها تعيشُ حالةَ ألم. لا يمكنُ وجودُ تنميةٍ متكاملةٍ وخيرٍ عامٍ عالمي، دون خيرِ الأشخاصِ الروحي والأخلاقي، بإعتبارِهم في مُجملهِم نفساً وجسداً.

77. يميل استبدادِ التقنيةِ إلى عدم القدرة على إدراكِ ما لا يمكنُ تفسيرُه بالمادةِ وحدها. مع أن جميع الناس يختبرون جوانب عديدة من حياتهم، لاماديّةٍ وروحية. إنَّ فعل المعرفةِ ليس مادياً فقط، لأن موضوع المعرفةِ يخفي دائماً ما يتجاوزُ المعلومات التجريبية. جميعُ إدراكاتنا، حتى أبسطها، هي دائماً معجزةٌ صغيرةٌ، لأنه لا يمكننا تفسيرَها بالكامل من خلال الوسائل المادية التي نستخدمها. في كلِّ حقيقة هناك أكثر مما نتوقَّع، وفي المحبةِ التي نتلقاها هناكَ دائماً ما يفاجئنا. لا ينبغي لنا أبداً أن نكف عن التعُّجبِ أماَ هذه المعجزات. في كلِّ إدراكٍ وكل فعلٍ من أفعالِ المحبةِ تختبرُ النفسُ البشريةُ "الأكثر" الذي يُشبه عطيةً تقبلها، وسمواً نشعر بإرتقائنا نحوه. تتوضَّعُ تنميةُ الإنسان والشعوبِ أيضاً على علوٍّ مُماثِلٍ، إذا أخذنا في الاعتبار البُعدَ الروحي الذي يجب أن يُميِّزَ بالضرورة هذا التطور ليكونَ حقيقياً. فهو يتطلَّبُ عيوناً جديدةً وقلباً جديداً، بإستطاعتهم تجاوزَ نظرةِ النزعةِ الماديّةِ للأحداث البشرية، والنظرَ بعمقٍ إلى التنمية ليلمحَوا فيها ما هو أبعدُ مما تقدرُ التقنيةُ أن تمنحه. بسلوكِ هذا الطريق يمكننا السعي وراءَ التنمية البشرية المتكاملة، التي تجدُ معيارها المُرشد في قوة المحبة في الحقيقة.

 

الخاتمة


78. بدونِ اللهِ لا يعرِفُ الإنسانُ إلى أينَ يذهبُ، لا بل ولا يُدركُ مَن هو. أمامَ المشاكلِ الضخمةِ المتعلِّقةِ بتنميةِ الشعوبِ والتي تدفعُنا تقريباً إلى اليأس والاستسلامِ، تأتي لنجدتِنا كلمةُ الربِّ يسوعَ المسيحِ التي تُعلِمنا بأنه: «من دوني لا تستطيعونَ أن تَفعلوا شيئاً» (يو 15: 5) وتُشجّعنا: «أنا معكم دائماً وحتى إنقضاءِ الدهر» (مت 28: 20). بالرغم من ضخامةِ العملِ الذي يتعيَّنُ علينا القيامُ بهِ، يسندُنا الإيمانُ بحضورِ الله إلى جانِبِ مَن يتَّحدونَ باسمِهِ ويعملونَ من أجلِ البِرّ. لقد ذكَّرنا بولسُ السادسُ في رسالتِهِ "ترقي الشعوب" أن الإنسانَ لا يقدرُ وحدَهُ أن يُديرَ تقدُّمَه، إذ لا يمكنُهُ أن يُشيِّدَ أنسنةً حقيقيةً على أساسِ ذاتِه. فلا يُمكننا إنتاجَ فكرٍ جديدٍ، والتعبيرَ عن الطاقاتِ الجديدةِ في خدمةِ أنسنةٍ حقيقيةٍ، إلا إذا كُنا نؤمِنُ أننا مدعوونَ، كأفرادٍ وجماعةٍ، لنكونَ جزءاً من عائلةِ الله، كأبنائِهِ. فأعظَمُ قوةٍ في خدمةِ التنميةِ هي الأنسنةُ المسيحيةُ (157)، التي تبعثُ على المحبةِ وتسترشِدُ بالحقِّ، وتقبلُهُما كعطيةِ اللهِ الدائمة. إنَّ الحضورَ تجاهَ الله يؤدّي للحضورِ تجاهَ الإخوة، وتجاهَ حياةٍ تُعاشُ كمُهمةٍ تضامنيةٍ وبهيجة. في المقابلِ، نجدُ أنَّ الإنغلاقَ الأيديولوجي تجاهَ الله وإلحادِ اللامبالاةِ، اللذانِ يَنسيانِ الخالقَ ويُخاطِرانِ بنسيانِ القِيَمِ الإنسانيةِ، هما في أيامنا عقبتانِ من بين العقباتِ الرئيسيةِ أمامَ التنمية. الأنسنةُ التي تستبعدُ الله هي أنسنَةٌ لاإنسانية. وحدُها الأنسنةُ المنفتحةُ على المُطلَقِ يمكنُها أن تقودَنا إلى تعزيزِ وتحقيقِ أشكالِ حياةٍ اجتماعيةٍ ومدنيةٍ – في مجالِ البُنى والمؤسساتِ والثقافةِ والأخلاقيات – تحمينا من سجنِ البدعات الراهنة. إنَّ وعيَنا لمحبةِ الله الباقيةِ أبداً معنا هو الذي يعينُنا في جهدِنا الشاقِّ والمُثيرِ في سبيلِ العدالةِ وتنميةِ الشعوبِ، وسطَ نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ، في إطارِ السعي المتواصِلِ من أجلِ تنظيمٍ مستقيمٍ لشؤون البشر. تدعونا محبةُ اللهِ للخروجِ ممّا هو محدودٌ وغيرُ نهائي، وتمنحُنا الشجاعةَ لنعملَ ونثابرَ في البحثِ عن خيرِ الجميعِ، حتى لو لم يتحقَّقَ هذا على الفورِ، حتى لو كانَ ما ننفِّذُهُ، نحنُ والسُلُطاتُ السياسيةُ والفعالياتُ الاقتصاديةُ، هو دائماً أقلَّ مما نرغَبُ (158). اللهُ يهبُنا القوةَ للنكافحَ ونتألَّمَ في سبيلِ الخيرِ العام، لأنَّه هو كلُّ ما لنا، ولهذا فرجاؤنا أكبر.

79. تحتاجُ التنميةُ إلى مسيحيينَ يرفعون أيديهم إلى الله في الصلاة، إلى مسيحيين مدركين بأن المحبةَ المفعمةَ بالحقيقة، والتي تحمل تنميةً حقيقيةً، ليست من نتاجنا بل هي عطيةٌ نقبلها. لذلك وحتى في أصعب الأوقات وأعقدها علينا، فضلاً عن العملِ بوعي، أن نعودَ إلى محبةِ الله. التنميةُ تنطوي على الانتباه للحياة الروحية، على الأخذ على محمل الجد خبرات الثقة في الله والأخوَّةِ الروحية في المسيح، والعهد بنفوسنا إلى العناية والرحمة الإلهيَّتَين والمحبة والصفح، وإنكار الذات، واستضافة القريب والعدالة والسلام. كلُّ هذا ضروري لتحويل «قلوب الحجر» الى «قلوبٍ من لحم» (حز 36: 26)، مما يجعل حياةَ الإنسانِ على الأرض حياةً "إلهيةً"، تستحقُّ أن تُعاش. كل هذا للإنسان، لأن الإنسان هو المسؤولُ عن وجوده؛ وهو في نفس الوقت لله، لأن الله هو بدايةُ ونهايةُ كل قيمةٍ وفداء: «فالعالمُ كانَ أم الحياةُ أم الموتُ أم الحاضرُ أم المستقبلُ. كلُّ شيءٍ لَكُم، وأنتم للمسيحِ، والمسيحُ لله» (1 كو 3: 22-23). المسيحي يشتاقُ أن تدعوَ الأسرةُ البشريةُ بأسرها الله "أبانا !". ليتَ جميعَ الناسِ يتعلَّمون، مع الابنِ الوحيدِ، أن يصلّوا للآب، ويسألونَه، بنفس الكلمات التي علّمَها يسوع، وأن يعرفون كيف يقدِّسون اسمه بالعملِ وفقاً لمشيئته، فيحصلون على الخبز اليومي الضروري، ويتفهَّمون مَن لهم عليهم دينٌ ويكونون أسخياءَ تجاههم، وألاّ يُجرَّبون بقوةٍ، وأن يتحرَّروا من الشر (مت 6: 9-13).

في نهاية السنة البولُسية، أود أن أعرب عن هذه رغبةٍ، بإستعارتي كلماتِ الرسولِ في رسالته لأهل روما: «لْتَكُنِ المَحبَّةُ بِلا رِياء. إِِكرَهوا الشَّرَّ والزَموا الخَيْر. ليَوَدًّ بَعضُكم بَعضًا بمَحَبَّةٍ أَخَوِيَّة. تَنافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض» (12: 9-10). لعلَّ مريم العذراء، التي أعلنها البابا بولس السادس أمَّ الكنيسةِ والتي يُكرِّمها الشعبُ المسيحي كمرآة العدل وملكة السلام تحمينا وتستمدُّ لنا، بشفاعتها السماوية، القوة والرجاءَ والفرح الضروري، لنستمرَّ في تكريس أنفسنا بسخاءٍ في سبيلِ تحقيق «التنمية للإنسانٍ بأكمله ولكلِّ إنسان» (159).

أعطيت في روما في بازيليك القديس بطرس، 29 حزيران (يونيو)،
في يوم الاحتفال بعيد القديسين الرسولين بطرس وبولس، في سنة 2009، الخامسة لحبريتنا.

البابا بندكتس السادس عشر

 

___________

حواشي المترجم

[أ] Ubi societas, ibi ius

[ب] الكلمة المستعملة في الأصل هي الكلمة اليونانية (polis) وهي جذر كلمة "سياسة" (politica).

[ج] تلفيقية: اجتماع مُصطَنع لأفكار فلسفية أو دينية مختلفة المورد وهي لا تبدو متوافقة إلا لأنها تُأخَذُ بسَطحِية.

[د] مصارف الرحمة: شكل من أشكال المصارف، ابتكرها رهبانٌ في القرن الخامس عشر، تقوم على منح قروض للمحتاجين، بدون فوائد.

 

الحواشي

1)      بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب" عدد 22؛ راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء عدد 69.

2)      خطاب بمناسبة يوم التنمية (23 آب 1968).

3)      راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2002.

4)      راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 26.

5)      راجع يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة "السلام في الأرض".

6)      راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 16.

7)      نفس المرجع عدد 82.

8)      نفس المرجع عدد 42.

9)      نفس المرجع عدد 20.

10)   راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 36؛ بولس السادس، الرسالة العامة "الذكرى الثمانون"، عدد 4؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 43.

11)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 13.

12)   راجع المجلس الحبري للعدالة والسلام، مُلخَّص عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 76.

13)   راجع بندكتس السادس عشر، خطاب في افتتاح اعمال السينودس الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية والكارايبي (13 أيار 2007).

14)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، أعداد 3-5.

15)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، أعداد 6-7.

16)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 14.

17)   بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "الله محبة"، عدد 18.

18)   نفس المرجع عدد 6.

19)   راجع بندكتس السادس عشر، خطاب لمجلس الرئاسة الرومانية في عيد الميلاد (22 كانون الأول 2005).

20)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 3.

21)   نفس المرجع عدد 1.

22)   نفس المرجع عدد 3.

23)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "العمل البشري"، عدد 3.

24)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 3.

25)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 3.

26)   نفس المرجع عدد 34.

27)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "الحياة البشرية"، أعداد 8-9؛ بندكتس السادس عشر، خطاب للمشاركين في المؤتمر الدولي بمناسبة الذكرى الأربعين على نشر الرسالة العامة "الحياة البشرية".

28)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "إنجيل الحياة"، عدد 93.

29)   نفس المرجع عدد 101.

30)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "إعلان الإنجيل"، عدد 29.

31)   نفس المرجع عدد 31.

32)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 41.

33)   راجع نفس المرجع؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، أعداد 5 و 54.

34)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 15.

35)   راجع نفس المرجع عدد 2؛ لاون الثالث عشر، الرسالة العامة "الشؤون الحديثة"؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 8؛ و"السنة المئة" عدد 5.

36)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، أعداد 2 و 13.

37)   نفس المرجع عدد 42.

38)   نفس المرجع عدد 11.

39)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 15.

40)   نفس المرجع عدد 3.

41)   نفس المرجع عدد 6.

42)   نفس المرجع عدد 14.

43)   نفس المرجع؛ راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، أعداد 53 – 62؛ و"فادي الإنسان" أعداد 13 – 14.

44)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 12.

45)   المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 22.

46)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 13.

47)   راجع بندكتس السادس عشر، خطاب للمؤتمر الكنسي الوطني الرابع، للكنيسة في إيطاليا (19 تشرين الأول 2006).

48)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 16.

49)   نفس المرجع.

50)   بندكتس السادس عشر، خطاب للشبيبة: راجع صحيفة الأوسرفاتوري رومانو 18 تموز 2008، ص 8.

51)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 20.

52)   نفس المرجع عدد 66.

53)   نفس المرجع عدد 21.

54)   نفس المرجع الأعداد 3 و 29 و 32.

55)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 28.

56)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 9.

57)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 20.

58)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، أعداد 22-29.

59)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، أعداد 23 و 33.

60)   راجع لاون الثالث عشر، الرسالة العامة "الشؤون الحديثة".

61)   المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 63.

62)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 24.

63)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "تألق الحقيقة"، أعداد 33 و 46 و 51؛ والخطاب أمام جميعة الأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها (5 تشرين الأول 1995).

64)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 47؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 42.

65)   راجع بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة يوم الغذاء العالمي 2007.

66)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "إنجيل الحياة"، أعداد 18 و 59 و 63-64.

67)   راجع بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2007، عدد 5.

68)   راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسالم 2002؛ ورسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2004؛ و رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2005؛ بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2006، أعداد 9-10؛ رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2007، أعداد 5 و 14.

69)   راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2002، عدد 6؛ بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2006، أعداد 9-10.

70)   راجع بندكتس السادس عشر، عظة خلال قداس في ريغيسبورغ (12 أيلول 2006).

71)   راجع بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "الله محبة"، عدد 1.

72)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 28.

73)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 19.

74)   نفس المرجع عدد 39.

75)   نفس المرجع عدد 75.

76)   راجع بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "الله محبة"، عدد 28.

77)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 59.

78)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 40 و 85.

79)   نفس المرجع عدد 13.

80)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإيمان والعقل"، عدد 85.

81)   راجع نفس المرجع عدد 83.

82)   بندكتس السادس عشر، خطاب في جامعة ريغيسبورغ (12 أيلول 2006).

83)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 33.

84)   راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2000، عدد 15.

85)   التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 407؛ راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 25.

86)   راجع بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "بالرجاء مُخلَّصون"، عدد  17.

87)   راجع نفس المرجع عدد 23.

88)   يعرض القديس أغسطينوس بتفصيلٍ هذا التعليم في الحوار حول الإرادة الحُرّة (الإرادة الحرّة، الكتاب الثاني 3، 8 وما يتبع). وهو يشير إلى وجود "حاسة باطنية" لدى النفس البشرية. هذه الحاسة هي عبارة عن فعل خارج وظائف العقل الطبيعية، فعل لا ينطوي على التفكير وغريزي تقريباً، فالعقل إذ يُدركُ وضعه العابر والمُعرَّض للخطأ، يُسلِّمُ بوجودِ شيء ما أزلي يسموه، له صفة الحقيقة والتأكيد المُطلَق. يدعو القديس أغسطينوس هذه الحقيقة الباطنية أحياناً الله (اعترافات، الكتاب العاشر، 24، 35؛ الإرادة الحرّة، الكتاب الثاني 3،8) وغالباً المسيح (المعلِّم 11،38؛ اعترافات، الكتاب السابع، 18،24؛ الكتاب الحادي عشر، 2،4).

89)   بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "الله محبة"، 3.

90)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 49.

91)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 28.

92)   راجع نفس المرجع عدد 35.

93)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 38.

94)   بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 44.

95)   راجع نفس المرجع عدد 24.

96)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 36.

97)   راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 24.

98)   راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 32؛ بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 25.

99)   يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "العمل البشري"، عدد 24.

100)       نفس المرجع عدد 15.

101)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 27.

102)       راجع مجمع عقيدة الإيمان، تعليم حول الحرية المسيحية والتحرير "حرية الضمير"، عدد 74.

103)       راجع يوحنا بولس الثاني، مقابلة مع الصحيفة الكاثوليكية (La Croix)، 20 آب 1997.

104)       يوحنا بولس الثاني، خطاب أمام الأكاديمية الحبرية للعلوم الإجتماعية (27 نيسان 2001).

105)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 17.

106)       راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2003، عدد 5.

107)       راجع نفس المرجع.

108)       راجع بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2007، عدد 13.

109)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 65.

110)       راجع نفس المرجع أعداد 36-37.

111)       راجع نفس المرحع عدد 37.

112)       راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، النشاط الرسولي، عدد 11.

113)       راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 14؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 32.

114)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 77.

115)       يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 1990، عدد 6.

116)       هيراقليطس الأفسسي (أفسس نحو 535 ق. م. – 475 ق. م.)، القطعة 22B124 في H. Diels-W. Kranz, Die Fragmente der Vorsokratiker, Weidmann, Berlin 19526 .

117)       راجع المجلس الحبري للعدالة والسلام، ملخَّص عقيدة الكنيسة الإجتماعية، أعداد 451 – 487.

118)       راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 1990، عدد 10.

119)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 65.

120)       بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2008، عدد 7.

121)       راجع بندكتس السادس عشر، خطاب للمشاركين في اجتماع جمعية الأمم المتحدة (18 نيسان 2008).

122)       راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 1990، عدد 13.

123)       يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 36.

124)       نفس بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 2007، عدد 8.

125)        راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 41.

126)       راجع نفس المرجع.

127)       راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "إنجيل الحياة"، عدد 20.

128)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 85.

129)       راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة بمناسبة يوم السلام العالمي 1998، عدد 3؛ وخطاب إلى أعضاء مؤسسة "السنة المئة" (9 أيار 1998)، عدد 2؛ وخطاب إلى القيادات المدنية والسياسية والدبلوماسيين خلال لقاء (Wiener Hofburg) في 20 حزيران 1998، عدد 8؛ ورسالة إلى مدير الجامعة الكاثوليكية "القلب الأقدس" بمناسبة اليوم السنوي لها (5 أيار 2000)، عدد 6.

130)       بحسب القديس توما الأكويني إنَّ «قيمة الجزء تخالف قيمة الشخص» (III Sent. d. 5, 3, 2)، و «الإنسان لا يرتبط، بكُلّيته وبكلِّ ما يملك، بالجماعة السياسية» (Summa Theologiae I-II, q. 21, a. 4, ad 3um.).

131)       راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 1.

132)       راجع يوحنا بولس الثاني، خطاب للمشاركين في الجلسة العامّة للأكاديمية الحبرية للاهوت وللقديس توما الأكويني (8 تشرين الثاني 2001)، عدد 3.

133)       راجع مجمع عقيدة الإيمان، بيان حول وحدانية الخلاص وشموليّته "الرب يسوع"، عدد 22؛ ومُذكِّرة عقائدية حول بعض المسائل المُتعلِّقة بإلتزام المؤمنين الكاثوليك في السياسة، عدد 8.

134)       بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "بالرجاء مُخلَّصون"، عدد 31؛ وخطاب للمشاركين في المؤتمر الكنسي الوطني الرابع للكنيسة في إيطاليا (19 تشرين الأول 2006).

135)       يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 5؛ راجع بندكتس السادس عشر، خطاب للمشاركين في المؤتمر الكنسي الوطني الرابع للكنيسة في إيطاليا (19 تشرين الأول 2006).

136)       المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 12.

137)       راجع بيوس الحادي عشر، الرسالة العامة "السنة الأربعون"؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 48؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 1833.

138)       راجع يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة "السلام في الأرض".

139)       راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، أعداد 10 و 41.

140)       راجع بندكتس السادس عشر، خطاب لأعضاء المجلس اللاهوتي الدولي (5 تشرين الأول 2007)؛ وخطاب للمشاركين في المؤتمر الدولي حول "الشريعة الأخلاقية الطبيعية" الذي أقامته الجامعة الحبرية اللاتيرانية.

141)       راجع بندكتس السادس عشر، خطاب لمجلس أساقفة تايلاندا خلال زيارتهم القانونية للأعتاب الرسولية (16 أيار 2008).

142)       راجع المجلس الحبري لرعوية المهاجرين والمتنقِّلين، التعليم "محبة المسيح للمهاجرين".

143)       يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "العمل البشري"، عدد 8.

144)       خطاب في ختام القداس بمناسبة يوبيل العمّال (1 أيار 2000).

145)       راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "السنة المئة"، عدد 36.

146)       راجع بندكتس السادس عشر، خطاب للمشاركين في الجمعية العامة للأمة المتحدة (18 نيسان 2008).

147)       راجع يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة "السلام في الأرض"؛ المجلس الحبري للعدالة والسلام، مُلخَّص عقيدة الكنيسة الإجتماعية، عدد 441.

148)       راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 82.

149)       راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي"، عدد 43.

150)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"؛ راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 57.

151)       راجع يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "العمل البشري"، عدد 5.

152)       راجع بولس السادس، الرسالة العامة "الذكرى الثمانون"، 29.

153)       راجع بندكتس السادس عشر، خطاب للمشاركين في المؤتمر الكنسي الوطني الرابع للكنيسة في إيطاليا (19 تشرين الأول 2006)؛ وعظة في قداس (Islinger Feld) في ريغيسبورغ (12 أيلول 2006).

154)       راجع مجمع عقيدة الإيمان، تعليم حول بعض مسائل أخلاقيات علم الأحياء "كرامة الشخص البشري"، عدد 3.

155)       راجع بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 3.

156)       المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 14.

157)       بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 42.

158)        راجع بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "بالرجاء مُخلَّصون"، عدد 35.

159)        بولس السادس، الرسالة العامة "ترقي الشعوب"، عدد 42.

 



Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana